بلاد الحريات تنتهك الحريات! لماذا دول العالم الأول متناقضة مع نفسها؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/30 الساعة 12:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/30 الساعة 12:43 بتوقيت غرينتش

عندما تكون صحفياً تعمل بدولة من دول العالم الثالث وأنت تشاهد التلفاز ترى مقدم النشرة يتلو عليك خبر "القبض على جوليان أسانج، مؤسس ويكيليكس، من سفارة الإكوادور ببريطانيا"، وتفتح الحاسوب لتجد أخباراً عن تخلي دول العالم الأول عن حماية ذلك العبقري أسانج؛ في محاولة لإرساله إلى الولايات المتحدة الأمريكية ومحاكمته هناك.

حدث هذا لجوليان أسانج، لأنه أرسل وثائق وفيديوهات عن حرب العراق وأفغانستان للصحافة وأعلنها للملأ. لو أنك صحفي وتعمل في دولة من دول العالم الثالث، ماذا تنتظر أن يُفعل بك من حكومتك؟

حرية الصحافة في العالم

حاولت مسبقاً حل شيفرة الحرية ومحاولة فهم ما تفعله السلطات، هل هي فعلاً الحرية كما علَّمونا في الكتب والمدارس أم أن العلم مغاير للواقع؟

عندما تضع التلسكوب على الولايات المتحدة، الدولة التي يُقال عنها إنها أولى الدول التي تتمتع بفضاء حرية التعبير وحرية الصحافة؛ ستجد أن حرية التعبير وحرية الصحافة وجهان لعملة واحدة وهي الحرية.

فحرية التعبير هي قدرة الفرد على التعبير عن معتقداته أو أفكاره أو مشاعره حول قضية دون خوف من رقابة أو سلطة، بينما حرية الصحافة تعني قدرته على النشر دون تدخل من الحكومة في طبيعة ما يُنشر من معلومات أو ثقافة أو فكر بحرية تامة عبر الصحف والبرامج الإذاعية والتلفازية ومواقع الإنترنت في إطار قانوني، لذلك تختلف حرية الصحافة مع حرية التعبير في وسائل النشر والقانون الصحفي، لكنهما مرتبطان مع بعضهما.

لذلك أصبح معروفاً أن حرية الصحافة هي الأساس الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية في جميع بلدان العالم، فلن تكون هناك ديمقراطية دون وجود حرية للصحافة بمعناها الفضفاض، فالصحافة المستقلة هي السلطة الرابعة في الدولة، وهي التي توفّر الآراء والمعلومات التي تهم الشعوب.

بما أن ماما أمريكا بلد الحريات والأحلام فإنها على الورق أكثر القارات ملاءمة للصحافة كما أوضحت وكالة "مراسلون بلا حدود" في آخر بيان لها.

بلاد الحريات تنتهك الحريات!

في أواخر عام 2021، كثيراً ما ورد اسم جوليان أسانج في الصحافة على أنه جاسوس ومتحرش ومغتصب ومجنون، لكننا لم نعرف على أي جريمة بالضبط سيحاكَم؟ وهل من المنطقي أن يحاكَم شخص بكل هذه الجرائم مرة واحدة؟ أين كان القانون في الوقت الذي ارتُكبت فيه تلك الجرائم؟

بدايةً سنقوم بإلقاء إطلالة سريعة على من يقولون عن "جوليان أسانج" إنه متهم. يعد جوليان أسانج أهم صحفي استقصائي في العالم ينحدر من أصول أسترالية، عمل سنة 2006 على تأسيس موقع ويكيليكس كما أنه كان يرأس تحريره، وقد اشتغل أسانج خلال فترة المراهقة هاكر، وبعد ذلك مبرمج كمبيوتر قبل أن يصبح معروفاً من خلال عمله مع ويكيليكس، حيث سخّر ظهوره العلني في جميع بقاع العالم للتحدث عن حرية الصحافة.

وأصبح موقع ويكيليكس خلال سنة 2010، معروفاً عالمياً، بمجرد أن شرع في نشر وثائق عسكرية ودبلوماسية عن الولايات المتحدة بمساعدة من شركائه في وسائل الإعلام.

محاولة التخلص من أهم صحفي استقصائي

عندما مارس جوليان أسانج العمل الصحفي مع وكالات الأنباء والصحف الكبرى كـ"الغارديان" وما شابهها وكشف عن مجموعة من الانتهاكات المروعة والمرتكبة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحكومات أخرى، وكشف أيضاً عن فضائح الحرب بالعراق وأفغانستان، وكذلك انتهاكات لدبلوماسيين أمريكيين ورشاوى لكثير من السياسيين في أمريكا، لم تكن لتظهر لولا هذه التسريبات، وسخّر كل الفضاءات التي أتيحت له للتحدث عن حرية الصحافة.

عند ذلك حاولت ماما أمريكا الضغط عليه والتخلص من العبقري المشاغب الذي يستطيع معرفة المعلومات الموجودة داخل الصندوق الأسود للنظام الأمريكي، ولأنه صحفي تحميه القوانين بدأوا بمحاربته وإلقاء التهم جزافاً كما تفعل الحكومات الديكتاتورية فقالوا عنه متحرش ومغتصب.

عندما تريد الحكومات الديكتاتورية التخلص من شخص يكون التحرش والاغتصاب هما أسهل التهم التي يستطيعون إيقاع الأشخاص بها.

لكن تلك المحاولة لم تفلح فقالوا عنه مجنون؛ أيضاً هذه التهمة من أقبح التهم التي سمعناها في تاريخ السابقين والأمم المكذبة لرسلهم كما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا عنه ساحرٌ أو مجنون".

المعلومة هي الوقود المحرك للصحافة، ولذلك فإن الحصول عليها أمر لاجدال فيه، وتؤكد القوانين الدولية أن للفرد حقوقاً وحريات في نشر المعلومات التي يحصل عليها بأي وسيلة يختارها دون اعتبار للحدود، وقد فعل جوليان أسانج ذلك عندما شرّع صحافة استقصائية غير اعتيادية، جمعت بين الكشف عن وثائق سرية تمس الأمن القومي وتحرص السلطات الرسمية على إخفائها، في الوقت ذاته حاول حماية مصادره التي حصل منها على هذه المعلومات، فالوثائق التي نشرها جوليان أسانج كانت حقائق صادمة على بلاده، لكن ضميره غلب على انتمائه لوطنه.

عندما لم تستطع الولايات المتحدة الأمريكية كَبحه بالتحرش والاغتصاب، هاجمته بالقانون الذي صنعته واتهمته بالتجسس ونشر وثائق سرية، مع أن المواثيق الدولية تعطيه الحق في الحصول على المعلومة ونشرها، وقتها أثار جدلاً واسعاً في الوسط الصحفي؛ لمحاولة الإيقاع به من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في فخ التجسس على الولايات المتحدة، وإذا وقع في هذا الفخ فهذا يعد انتهاكاً للصحفيين، لأن جوليان أسانج اشتغل على تجميع المصادر وحرص على عدم الكشف عن هوية المصدر في أثناء نشره الوثائق.

من اللافت للانتباه أنه وبعد اعتقال جوليان أسانج من سفارة الإكوادور بلندن والقبض عليه، وفي العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2021، يوجد حدثان متناقضان لا يستطيع العقل إدراكهما وهما: "الحكم في قضية جوليان أسانج ببريطانيا" والآخر "افتتاح قمة الديمقراطية بالولايات المتحدة الأمريكية". ألغت المحكمة البريطانية الحكم الصادر في يناير/كانون الثاني 2021، والذي بموجبه يمنع تسليم جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة، بمعنى آخر سيتم تسليم جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة لكن بعد فترة.

رجوعاً إلى أمريكا، وخلال افتتاح قمة الديمقراطية تباهى الرئيس الأمريكي جو بايدن، وتغنى بالديمقراطية ودعم الإعلام وقال إن الصحافة هي حجر الأساس للديمقراطية؛ أحسست وقتها بأن هؤلاء البشر لا يخجلون، يقولون في أمريكا شيئاً ويفعلون نقيضه ببريطانيا.

من الممكن أن يواجه أهم صحفي استقصائي بالعالم وهو جوليان أسانج حكماً من الولايات المتحدة بـ175 عاماً من السجن، بمعنى آخر يقضي بقية حياته في السجن، هذه الدولة التي تغنت بحرية الصحافة في المؤتمرات الأمريكية وفعلت النقيض ببريطانيا في اليوم نفسه.

لم يكن هذا الحكم صفعة لعائلته وأصدقائه فقط بل هو صفعة وانتهاك للصحافة الدولية بأكملها، وإن لم يكن هناك موقف فستكون العواقب وخيمة.

هذا يحدث في دول العالم الأول التي تحدثت عنها منظمة مراسلون بلا حدود وأطلقت بياناً تقول فيه إن القارة الأمريكية هي أكثر قارات العالم ملاءمة لحرية الصحافة، لكن ما يحدث لجوليان أسانج مُعاكس لما ذكرته منظمة "مراسلون بلا حدود" وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية، كيف يستطيعون تنفيذ قوانينهم مع أن النصوص تقول غير ذلك؟ إنها السلطة التي لا نستطيع الوقوف أمامها.

واقع حقيقي مؤلم للصحفيين، ليست هناك حماية للصحفيين سواء من دول العالم الأول أو دول العالم الثالث، إنه العبث؛ يتغنون بالحرية في المؤتمرات إنما الواقع يقول الحرية ليست للصحافة والصحفيين؛ الحرية للسلطة والسلاطين.

كثير من الصحفيين حول العالم يطالبون بالحرية لجوليان أسانج، ويؤكدون أن اعتقاله يمثل انتهاكاً لحقوق كل صحفي، واعتداء وصَفه البعض بـ"الفساد" على البروتوكول الصحفي، وانتهاك للقانون الدولي، ولكن هل المطالبات ستؤدي إلى حل أم أنها لن تُجدي نفعاً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود حجازي
صحفي مصري
صحفي مصري
تحميل المزيد