مع دخول جائحة كورونا العالمية عامها الثالث، واستمرار حملة التلقيح ضد مرض كوفيد-١٩، نمت بشكل ملحوظ حركة المعارضة والجدل حول لقاحات كورونا. ما يلفت الانتباه هو وجود عدد لا بأس به من المؤثرين في المجتمع من سياسيين وكتّاب ومشاهير في صدارة هذه المعارضة. بالرغم من أن الغالبية الساحقة منهم ليسوا من أصحاب الاختصاص العلمي في مجال اللقاحات، إلا أن تأثيرهم على أخذ اللقاح كان كبيراً.
تتعدد أوجه المعارضة ما بين من يرفض اللقاحات كلها، ومن يرفض لقاح كورونا بالتحديد، ومن يتردد في أخذ اللقاح. ويسوق معارضو اللقاح حججاً مختلفة، منها ما يتعلق بسرعة تطوير اللقاحات وإقرارها قبل إجراء ما يكفي من التجارب الإكلينيكية، ومنها ما يتعلق بشبهات الاستغلال والحافز الربحي لصناعة الدواء ومراكز الأبحاث، وأحياناً يكيل المعارضون الاتهامات للجهات التي تدافع عن اللقاح كالهوس بالعلم والإيمان الأعمى به، وغيرها من شبهات تستند إلى نظريات مؤامرة مختلفة.
أود في هذا المقال أن أفنّد بعضاً من هذه المزاعم، وأن أبيّن سوء التقدير الذي نجمت عنه، ولماذا يجدر بنا أن نتجاهلها. كغير مختص في المجال الطبي، لن أتطرق إلى مناقشة النتائج العلمية حول نجاعة اللقاحات بذاتها؛ بل ستكون مقاربة المسألة عن طريق الرد على بعض الأغاليط وأخطاء التفكير التي أدّت إلى إثارة الجدل حول اللقاح دون مبرر معقول. هدفي أيضاً أن أوضح كيف أحكم كشخص غير مختص على اللقاحات، هل هي جديرة بالثقة أم لا؟
وحتى لا يساء الفهم، وجب التنويه بأن هذا المقال لا يقرّ أو يبرر أي إجراءات لإجبار الناس على أخذ اللقاح بطرق تنتقص من حرياتهم وحقوقهم الأساسية. ولا يبرر أيضاً تكميم الأفواه والحجب الذي تمت ممارسته ضد حركة المعارضة.
العلم يعطينا الثقة وليس اليقين
دعونا بداية أن نوضح ما يمكن أن نتوقعه من الطريقة العلمية في فهم العالم والعلوم القائمة عليها. بداية، العلم لا يدّعي المعرفة الشاملة أو اليقينية. والطريقة العلمية تمتاز بطبيعتها الأساسية المتواضعة التي ترفض إغلاق الباب مهما كانت النتائج أكيدة، ولا تدّعي معرفة الحقيقة المطلقة. فالباب مفتوح دائماً للنقد والتعديل والرفض إذا ظهرت فيما بعد بيانات وأدلة تتعارض مع الاستنتاجات العلمية السابقة. قد يكون هناك بعض المهووسين بالطريقة العلمية أو المتعصبين لنتائج العلم، وهؤلاء بهذا يتخذون موقفاً غير علمي. العلم بطبيعته يرفض الهوس والدوغمائية، ولا يقدم لنا سوى نتائج يمكن أن نثق بها.
والطب وأبحاث اللقاحات تقوم أساساً على أدوات المعرفة العلمية (وباستخدام مهارات أخرى) تهدف إلى الوصول إلى حلول قابلة للاستخدام ويمكن الوثوق بها. بطبيعة هذه الحلول، فإن الثقة بها تبنى على أساس إحصائي واحتمالي للنتائج التجريبية.
أساس الثقة بها هو أن احتمالية الفائدة تفوق احتمالية الضرر الذي قد يقع منها، وصمود النتائج رغم توسيع نطاق التجارب ومرور الوقت. بكلمات أخرى، كل ما نحن بحاجة إليه من اللقاحات هو أن تكون الثقة بها أكبر من الخطر الناجم عن المرض. وإذا كان هذا هو الحال في لقاحات كورونا، فإن عدم أخذ اللقاح بهدف تجنب خطر أصغر (تأثيراته الجانبية) بينما نتعرض لخطر أكبر (مضاعفات مرض كوفيد-١٩) هو سوء تقدير، وهو بالمناسبة انحياز معرفي يسمى بالانحياز لانعدام المخاطر.
كيف نعرف أن لقاحات كورونا موثوقة؟
نحن (خصوصاَ كغير أصحاب اختصاص) بحاجة إلى طريقة للحكم على الحلّ العلمي لمعرفة ما إذا ما كان بالإمكان الثقة به أم لا. وفي هذا الشأن هناك سؤالان يمكن أن نطرحهما. أولاً، ما هو الاختصاص المعرفي الذي ينبغي الرجوع إليه في هذه المسألة؟ وثانياً، ما هي مصداقية المختصين العاملين في هذا المجال المعرفي والذين قدموا هذا الحل؟ لنطبق ذلك على اللقاحات.
- ما هو المجال المعرفي المناسب والجدير بالثقة في مسألة اللقاحات؟
كما أنه لا يعقل أن أتوقع من العلم أن يحلّ خلافاً سياسياً أو أن يجيب عن مسألة من اختصاص الدين، أو أن يحسم مسألة جمالية فنية، فإن هناك مسائل لا يمكن أن تجد لها جواباَ مقنعاً إلا عن طريق العلم. وأي رأي فيها خارج إطار الطريقة العلمية والانضباط العلمي والتحقق العلمي لا يمكن قبوله.
والحكم على مسألة إن كانت علمية أو لا قد لا يكون دائماً أمراً سهلاَ. هناك بعض التداخل أحياناً. لنأخذ مثالاً؛ إذا أردنا التنبؤ بالطقس فمن الأنسب أن نلجأ إلى تقارير مراكز الرصد الجوي، التي تقوم أساساً على طرق علمية في جمع بيانات الطقس والتنبؤ به. من الواضح أن الدين والسياسة والفن غير قادرين على التنبؤ بالطقس. ولكن حدس المزارع و حرفيين آخرين يعتمدون على الطقس قد يكون مصدرا آخر للمعرفة هنا. تقارير الأرصاد الجوية ستكون أكثر دقة وبالتالي أجدر بالثقة. ومن الأنسب أن نوكل المسألة لعلماء الأرصاد حتى لو أخطأوا التنبؤ أحياناً وأصاب المزارع البسيط بحدسه أحياناً. المسألة ليست مسألة هوس ولكنها منهجية معرفية تكون نتائجها أفضل على المدى الطويل.
نجاعة لقاحات كورونا واللقاحات بشكل عام هي مثال واضح على مسألة علمية لا يمكن الوثوق بأي مصدر آخر غير علمي لم يتبع الطريقة العلمية وطرق التّحقّق العلمية مهما بدا هذا الرأي مقنعاً ومهماً سرد من أدلة قولية عن عدم فعالية اللقاحات أو تأثيرات خطيرة لها.
- هل يمكن الثقة بالعلماء ومراكز الأبحاث التي أنتجت اللقاحات؟
العلماء في نهاية المطاف بشر، وعرضة للفساد والخطأ. ومصادر التمويل وربحية العمل العلمي يلعبان دوراً مهماً في ما يشتغل به العلماء وما يصدر من أعمال خصوصاً في بيئة اقتصادية رأسمالية.
أمثلة الأخطاء الطبية في مجال الأدوية والأجهزة الطبية عديدة، أشهرها ربما فضيحة عقار "الثاليدومايد" الذي تم استخدامه بشكل واسع في خمسينات القرن الماضي لعلاج أمراض كثيرة دون وصفة من طبيب، وتم منعه لاحقاً بعدما تبين الضرر الكبير الذي سببه للأجنة.
وكمثال آخر هناك جهاز علاج السرطان بالأشعة "ثيراك-25" (Therac-25) في ثمانينيات القرن الماضي والذي أدّى إلى حدوث عدة وفيات نتيجة خطأ برمجي سبب في إعطاء جرعة أشعة عالية جداً للمرضى.
وهناك أيضاً أمثلة على حالات فساد. مثلاً تبين أن الشركات العاملة في صناعة السكر أعطت رشوة لعدد من العلماء قبل ٥٠ عاماً للتستر على أضرار السكر وتوجيه اللوم للدهون.
ليس بالإمكان أن نكون على يقين تام، كما أنه ليس بالإمكان أن ننفي إمكانية عرضة العلماء للخطأ والفساد. ولكن هناك مؤشرات تكفي لكي نعطي الثقة للرأي أو الحل العلمي المطروح كأفضل الموجود. إذا توفرت بعض الشروط الأساسية للثقة فإن وجود الحافز الربحي بحد ذاته لا يطعن في المصداقية. فالشركات المنتجة للقاح كورونا تطمع في المزيد من الأرباح برفع فعالية وكفاءة اللقاحات لضمان استمرار الطلب على لقاحاتها.
من أهم مؤشرات الثقة حجم ونشاط وتعدد مصادر الدراسات العلمية. إذا كان البحث العلمي والدراسات قليلة وغير متعددة ومصدر تمويلها شركات محددة يمكن هنا تغليب الشك في النتائج ورفضها. في حالة لقاحات كوفيد-19 فإن النشاط البحثي ممثلاً في عدد الدراسات وتعدد مصادرها مرتفع جدا. العلماء مواظبون على فحص اللقاحات ضد المتحورات الجديدة والتحقق من حالات الأعراض الجانبية التي تظهر وتطوير لقاحات جديدة.
المؤشر الأقوى على الإطلاق هو وجود إجماع علمي، لا سيما الإجماع العلمي الذي يتجاوز حدود السياسة ويمتد جغرافياً ليشمل عدة قارات. وبالرغم من ندرة الإجماع العلمي إلا أن هذا هو الحال في حالة النتائج المتعلقة بنجاعة لقاحات كورونا. الدراسات العلمية حول اللقاحات لا تنتهي إلى تناقضات هامة فيما بينها، وتشير إلى أن اللقاحات آمنة وناجعة. ونتائج الأبحاث تتراوح بشكل طبيعي؛ ولكن هناك الحد الأدنى من الإجماع لدى الغالبية العظمى من الأطباء، وهو أن أخذ اللقاح أفضل من عدمه، وأن منافعه للفرد والمجتمع تفوق مخاطره. وهذا الإجماع ليس محصوراً في المجتمع العلمي الغربي، بل يتعداه ليشمل الأطباء والعلماء من جميع دول العالم.
الإجماع العلمي لا يعني عدم وجود آراء علمية مخالفة على الإطلاق. وجود رأي علمي مخالف هنا أو هناك متوقع ولا ينتقص من هذا الإجماع. لقاحات كورونا ليست استثناء، وهناك بالطبع آراء علمية معارضة، لكنها لا تؤثر في الإجماع. وهنا يجب الانتباه إلى التضخيم الكبير الذي تقوم به معارضة اللقاحات لتلك الآراء العلمية المخالفة.
أما من خارج المجتمع العلمي، فإن قصص الأعراض الجانبية والتأثيرات الخطيرة للقاحات التي يتداولها الإعلام والناس لا تؤثر في هذا الإجماع؛ لأنها حتّى لو كانت صحيحة تظل أدلة قولية لا تضعف نتائج الدراسات العلمية المحققة.
وبالرغم من الحجم الكبير والجعجعة الصاخبة للجدل حول اللقاحات فإنه لا يؤثر في هذا الإجماع؛ وذلك لأنه يأتي غالباً من خارج المجتمع العلمي.
خلاصة
إذا ما فصلنا الغث من السمين، فإن لقاحات كورونا إنجاز علمي كبير يجدر الثقة بها كأفضل الموجود حالياً. الالتفات للتضليل والمعلومات الخاطئة حول اللقاح ناجم عن سوء تقدير. والمسؤولية الكبرى تقع على عاتق النخب والإعلام في التصدي لهذا التضليل الذي له انعكاسات في حياة الناس وصحتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.