الجوع وما أدراك ما الجوع، هو كائن جبار لطالما دكّ عروشاً ظن راكبوها أنهم بمأمن من أيدي الشعوب التي تتحول لقوة باطشة إذا وقعت تحت سطوته، نُسبت إليه العديد من الثورات والفورات، اتهمه الكثير من الناس بالكفر، فقالوا إن الجوع كافر، وبرروا لمن يتلبسهُ الجوع جميع الأفعال، حتى الشرع حكم بإعفاء السارق من حد السرقة إذا تمكن الجوع من بلد ما.
الجوع دفع الناس في بعض العصور إلى أكل الكلاب والقطط، بل إن هذا الكائن الجبار دفع الناس إلى اصطياد الضعفاء منهم وأكلهم – خذ عندك الشدة المستنصرية التي حدثت في مصر أثناء العصر الفاطمي نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري -مثالاً على ذلك- وأنا عندما أفكر في السبب الذي جعل الإنسان يأكل أمعاء الحيوانات مثلاً أو ما نسميه نحن في مصر بالعامية "الممبار" أو الفشة والكرشة، فلا أجد سبباً لهذه الأنواع من الأطعمة إلا الجوع الشديد الذي يُلجئ الناس إلى البحث عن أي شيء من الممكن أن يهضم، وأظن أنهم وما يشبههم من أكلات، ليست إلا نتاجاً للمجاعات.
في العصور السابقة، لم نعرف إلا شكلاً واحداً للجوع، لطالما تمثل لنا في صورة نُدرة الطعام، الذي ينتج عنه مجاعة، هذه هي الصورة المعهودة للجوع العام.
أما الآن فإننا نعيش في أوطاننا الحبيبة نوعاً جديداً من الجوع، استطاعت أنظمتنا -مشكورة- أن تضيفه إلى قائمة أنواع الجوع، جوعنا يا سادة لا يمتّ لندرة الطعام بصلة، فالطعام من الممكن أن يكون موجوداً بوفرة، ولكنه طعام ملوّث أو مسرطن أو غير معلوم المصدر، فقمحنا مسرطن، وسمكنا وليد مزارع تطعمه أحشاء الدجاج، وإذا ذهبت إلى الجزار لا تدري هل سيبيع لك لحم حمار أم حصان أم كلب، وكذلك فإنك إذا جلست لتأكل في أفضل المطاعم، لا تدري ما الحيوان الذي يقدم لك من لحمه على المائدة، وهذا شيء ينطبق على عظيم المطاعم قبل حقيرها، والحوادث يضيق بسردها المقام.
نحن في حصار من الطعام الملوث الذي يحيط بنا من كل جانب، فعلى الرغم من غلاء سعره، فإن نفسك لا تطاوعك إلى الامتداد إليه، فماذا نفعل؟ علاج السرطان وفيروسات الكبد أصبح من مستلزمات معيشة الكثير من أهل المحروسة.
ذكرني ما وصل إليه حالنا بالشاعر عندما قال:
ومن العجَائبِ والعجَائبُ جمَّةٌ … قُربُ الحبيبِ وما إليه وصولُ
كالعِيسِ في البيْدَاءِ يقتُلُها الظَمَا … والماءُ فوقَ ظُهُورِها مَحمولُ
فهو هنا يقصد أن الإبل تحمل الماء على ظهورها وهي تكاد أن تموت من العطش ولكنها لا تستطيع إليه سبيلاً، إن أشفقت على هذه الجمال فعليك أن تشفق علينا نحن كمصريين بصورة أكبر، فالجمال تحمل هنا ماءً نقياً صالحاً للشرب، أما نحن فلا يوجد أمامنا إلا الفاسد أو المسرطن من الطعام أو الماء.
ما أعرفه أن مطالب أي شعب في العالم بالنسبة لطعامه تتلخص في أن توفر له الحكومة طعاماً بسعر مناسب، أما نحن فنثقل كاهل حكامنا بطلب آخر إضافي بسيط، وهو أننا نريد طعاماً نظيفاً غير ملوث أو مسرطن، ونريد رقابة حقيقية على الأسواق لنعلم ماذا نأكل، هل من الممكن أن نأكل طعامنا -إن وجدناه- دونما خوف؟
لاحظ أنني أتكلم هنا عن جوع من نوع خاص تسلل للطبقات القادرة من المجتمع، أما باقي طبقات المجتمع وهي الكثرة الغالبة منه، فتتعرض لأنواع الجوع مجتمعة، وكأن الحكومات قد تعاهدت ألا تجعلها تشبع أبداً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.