بدأت العمل في المجال النفسي قبل مدة ليست بالطويلة، تبدلت فيها نظرتي للإنسان ولدهاليزه المظلمة. كل حالة نفسية هي ندبة مخفية وصوت مكتوم، صوت ظننت أن لن يسمعه سواي، صوت تخترق آلامه روحي، تزيد معرفتي بالجانب المظلم للإنسانية فتزيد عزلتي ويطول صمتي، حتى أُلقي حجراً في بركة الصمت الراكدة، وقتما عثرت على مسلسل 60 دقيقة، أعجبني في البداية البناء الدرامي القائم على التشويق لجذب المشاهد، وجودة الإخراج ثم بوغِت، كان في طيات الحلقات الصرخات المكتومة التي يتردد صداها في عقلي، أذكر أني هتفت: "ماما تعالي شوفي، ده مسلسل حقيقي!".
تحليل شخصيات "60 دقيقة"
مشهد تِلو الآخر كان يأسرني الصدق، والجودة وطريقة التناول وعرض القضايا الشائكة الجريئة بطريقة راقية، وعلى رأس القضايا المطروحة قضية الاستغلال الجنسي من الطبيب النفسي لمرضاه.
كانت صورة العمل تكتمل كقطع أحجية مُحدثة ثورة صاخبة تشجع النساء على أن يثقن بحدسهن، يتعرفن على حقوقهن، والأهم أن يعرفن كيفية أخذها والحفاظ عليها. لم يلفتني فقط الفكرة القائم عليها العمل وإنما التفاصيل، فكم من فكرة خلّاقة تفسد بالتناول السطحي أو المُبتذل أو المغلوط -على أقل تقدير- خصوصاً فيما يتعلق بالمجال النفسي.
هُنا العمل كل المعلومات الواردة به حقيقية، الشخصيات تاريخها النفسي أو المرضي يؤسس لدوافع أفعالها. بدءاً من" أدهم نور الدين" الذي عانى من اضطراب تم إهمال علاجه مع صدمة نفسية بانتحار والده أدى لتحوله إلى شخص "سايكوباث"، أي شخص مضطرب نفسياً لدرجة مرضية، ولكنه مغلف بالمكانة العلمية ومُحصن بسطوة شخصه ونفوذه وشهرته، كطبيب يحظى بشعبية على السوشيال ميديا وظهور إعلامي برّاق.
شخص مخادع من الطراز الأول قادر على التلاعب بالأفكار وإحكام السيطرة على ضحاياه واختيارهم بعناية، شخصية خرجت درامياً مضبوطة، غير مفتعلة، تمت كتابتها وإخراجها وتأديتها باحترافية ولعل من أفضل المشاهد مشهد "المواجهة"، سرده لتفكيره المشوّه بجنون العظمة والشعور بالاستحقاق ومحاولة دفع ضحيته المفضلة "ياسمين" إلى التخلص من حياتها لينجو بحياته.
كان مشهداً مبهراً، بداية من أداء الممثل "محمود نصر" مروراً بفعل القتل، وإدراك كيف يمكن أن تتحول إنسانة طبيعية لقاتلة؟ عندما تمتهن آدميتها لسنوات. لحظة الإدراك هي لحظة اتخاذ القرار والإقدام على الفعل، يُذكِّرنا المشهد بأن الإنسان لا يمكن التنبؤ بأفعاله، لأنه هو نفسه قد لا يدرك مقدار ما يُمكن أن يُقدم عليه.
وهنا نصل لـــ"ياسمين"، أفاد ظهور تاريخ نشأة ارتباطها بأدهم توضيح ما كانت عليه، شخصية مهزوزة، سهلة الانقياد، سريعة الافتتان بكل ما يُمثله أدهم، حيث خسرت فرصة الارتباط بشخص سوي وخسرت علاقة صداقة حقيقية، بكامل إرادتها. ومن هُنا أتم أدهم سيطرته عليها وتطويعها بتخلّيها عن كل ما يمثل كينونتها من هوايات أو علاقات حتى العمل كان في نطاق الأم دكتورة نوال.
تلاشت ياسمين الإنسانة ولم تبق سوى ياسمين مدام دكتور أدهم.
تلك التي تستمد وجودها من وجوده ولا تعرف عن نفسها إلا بما يوجهها إليه، لذلك تواصلت مع ماضيها، مُحاولة أن تستعيد ذاتها ثم سلكت طريق البحث عن الحقيقة حتى انتهت المعرفة بثورة عنيفة قاتلة.
أعجبني أداء "ياسمين رئيس" وشعرت كأني أراها لأول مرة.
ومن البحث عن الحقيقة إلى محاولة طمسها وإنكارها وهي شخصية دكتورة "نوال"، حب التملك للزوج والرغبة العمياء في الاستئثار به وإنكار مرضه ثم إنكار مرض ابنها ورفض علاجه، حتى عند انتحار الزوج كان لسان حالها: "هقول للناس إيه؟".
ووقتما اكتشفت تحرش ابنها بعاملة المنزل لملمت آثار جريمته بل سمحت بأن يُساومها، عاشت دكتورة نوال في حالة من الوجاهة الاجتماعية تُخفي خلفها دماراً ألحقته بحياة زوجها أدى لانتحاره، وفساداً ساهمت في تغذيته في ابنها حتى قُضي عليه.
متعة مضمونة وتشويق لا ينقطع
العمل كـكُل به العديد من المشاهد الرئيسية، وكل شخصية هي بطولة، شخصية سارة المنتحرة وشخصية حسن الزوج، الأداء التمثيلي كان مؤثراً وواقعياً، العرض المؤلم لحقيقية أن من يحاول الانتحار ويفشل ستتم مُلاحقته وتتوالى خساراته حتى ينجح ثم يوصم بالكُفر، وكأن مجرد المحاولة هي صك إعدام تم صرفه ولا يجوز إرجاعه، النبذ والضغط والرفض يُسخر كل من يحيط بالناجي من الانتحار- خصوصاً لو أُنثى- طاقته ليقضي عليه، يبخلون بالدعم والتفهم واللجوء لفرصة جديدة للعلاج.
بالإضافة للمحامية، ربما أداء مشهد المُرافعة لم يكن الأفضل، لكن كشخصية كان لها كذلك بُعد نفسي هي وزوجها فهيم الذي يعاني من اضطراب جنسي طرح جديد جريء أضاف لزخم القصة كونه أحد المرضى بعيادة الدكتور أدهم.
الحبكة الدرامية مترابطة ولم تفقد على مدار حلقات المسلسل عنصر المتعة أو التشويق، لذلك لن تجد شخصية ثانوية غير مؤثرة، فكل ضحية من الضحايا كانت تسرد ذات الألم بصورة مختلفة كما ينص الواقع، ليلى بأبعاد شخصيتها كصديقة سابقة لياسمين ثم ضحية لأدهم كان أداء مؤثراً وطبيعياً، الطالبة مي في الجامعة لإظهار مدى الطغيان وسوء استخدام السُلطة، والمراهقة يارا -وكان وجود نموذج مراهقة مهم وحقيقي كجرس إنذار لتوعية الأهل والمراهقات أنفسهم، ومُكمل لصورة السايكوباث – معدوم الضمير- الذي لا يُفرق بين ضحية وأخرى.
المسلسل مختلف وذكي، تشعر أن كل تفاصيله أٌخِذَت على محمل الجد.
أساس بنائه كتابة حقيقية صادقة
من الكاتب محمد هشام عُبيّة، وإخراج عظيم مُتقن من المُخرجة مريم أحمدي التي استطاعت توظيف الممثلين بصورة تفجر إمكانياتهم التمثيلية، وتشعرك بأنك تراهم لأول مرة كشخصيات للعمل وفقط مما يزيد من المصداقية دون أن يخطر ببالك على الأغلب أدوار سابقة لهم.
وعلى الرغم من أن النهاية بإعدام ياسمين قاسية تَحقق فيها القانون وليس العدالة -كما ذُكِر في المسلسل- ولكن الواقع كذلك قاسٍ بحاجة لأصوات قوية مسموعة ربما حينها تتحقق العدالة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.