في يناير/كانون الثاني 2022، تسلمت فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي لفترة مناوبة تبلغ ستة شهور. ومن بين المواضيع المطروحة على أجندة الرئيس ماكرون تعزيز الدفاع الأوروبي الموحد.
في عام 2018 تحدث ماكرون علناً عن ضرورة إنشاء جيش أوروبي حقيقي يدافع عن الاتحاد الأوروبي ضد التهديدات التي تواجهه، دون الاعتماد على مظلة الحماية الأمريكية التي تقدمها عبر حلف الناتو. لكن طموحات ماكرون تقف بوجهها مصالح الدول الأوروبية الأصغر، التي لا تود أن تنخرط في مشاريع عسكرية تستنزف مواردها الاقتصادية، وتحبذ مواصلة واشنطن دورها في حماية الأمن الأوروبي.
ويذكر أن علاقة فرنسا بالاتحاد الأوروبي والناتو لم تخلُ من مناكفات، إذ سبق لباريس في يوليو/تموز 1965، خلال عهد ديغول أن قاطعت المؤسسات الأوروبية التي ورثها لاحقاً الاتحاد الأوروبي، وذلك في أزمة عُرفت بأزمة الكرسي الفارغ، حيث أرادت باريس أن تحتفظ بحق نقض أي إجراء أوروبي ترى أنه يهدد مصالحها الوطنية. وقد حُلت الأزمة فيما اشتهر باسم تسوية لوكسمبورغ التي استجابت للطلب الفرنسي، ومنحت لكل الدول الأعضاء بالمجموعة الأوروبية حق النقض ضد أي إجراء يمس مصالحها.
وكذلك جمدت فرنسا في عام 1966 نشاطها ضمن القيادة العسكرية لحلف الناتو، وأعلن ديغول في رسالة للرئيس الأمريكي آنذاك جونسون، أن باريس لم تعد تضع قواتها العسكرية تحت تصرف الحلف دون أن يعلن انسحاب فرنسا بشكل كامل من الناتو، وهو الوضع الذي استمر حتى عام 2008.
الأداء القتالي للجيش الفرنسي
الطموحات الفرنسية التي يعبر عنها ماكرون يبددها الأداء القتالي للجيش الفرنسي وحجم الإنفاق العسكري. ففرنسا خاضت خلال السنوات الأخيرة عدة حروب تمتد من أفغانستان إلى الساحل والصحراء الإفريقيين. فبعد هجمات سبتمبر/أيلول 2001، استجابت باريس لطلب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بالمشاركة في عملية "الحرية الدائمة" التي شنتها واشنطن ضد أفغانستان، وأرسلت باريس 500 جندي في البداية، وعندما تسلم الناتو قيادة القوات الدولية "إيساف" في أفغانستان عام 2003 أصرت باريس على أن تعمل القوات الفرنسية في العاصمة كابول دون أن تذهب إلى معاقل طالبان في الجنوب والشرق.
ولكن تغير الأمر مع وصول ساركوزي لمنصب الرئيس عام 2007، حيث أعاد ضم بلاده لقيادة الناتو في العام التالي بعد قطيعة استمرت 40 سنة، كما وافق على إرسال تعزيزات من الجيش الفرنسي ليصل عدد قواته بأفغانستان إلى 3935 جندياً من بينهم 700 انتشروا في ولاية كابيسا شرق، كابول قبل أن يبدأ سحب معظمهم في عام 2012. وخلال الحرب قُتل 89 جندياً فرنسيا فيما أصيب 750 آخرون.
وقد صدرت عدة كتب تتطرق إلى الأداء العسكري الفرنسي في أفغانستان، وهو ما تناوله على سبيل المثال الأمريكي مايكل والتز قائد إحدى مجموعات القوات الخاصة الأمريكية الشهيرة باسم القبعات الخضراء في كتاب نشره بعنوان "المحارب الدبلوماسي".
خصص والتز الفصل الخامس في كتابه للحديث عن ملاحظاته على أداء الجيش الفرنسي في أفغانستان، حيث ذكر أن الفرنسيين لم يمتلكوا أي رغبة في تنفيذ مهام قتالية وأرادوا الاكتفاء بتنفيذ دوريات وعمليات استطلاع، مع اشتراط توافر كافة وسائل الحماية لهم من دعم جوي لصيق وطائرات إخلاء طبي وقوة رد سريع للتدخل في حال حدوث قتال، فيما استخدم القادة الفرنسيون الميدانيون عناصر الجيش الأفغاني لخوض المعارك بدلاً من الجنود الفرنسيين.
كما وضعوا القوات الأفغانية المرافقة لهم في المناطق الساخنة في حالة تأهب مستمر، ما أعاق الجنود الأفغان عن أخذ عطلات لزيارة أسرهم وتوصيل رواتبهم لعائلاتهم، وهو ما دفع نصف الجنود الأفغان عند أول إجازة لهم للهرب من الخدمة، وكذلك نقل والتز شكاوى أفراد الجيش الأفغاني بأن الضباط الفرنسيين لا يهتمون سوى بالأزياء والطعام ويعاملونهم بطريقة متعالية متعجرفة، ولا يقدمون لهم تدريبات جادة، وهو ما يُعد فشلاً للفرنسيين في إدارة علاقاتهم مع القوات الأفغانية الحليفة لهم.
كما تطرق والتز إلى تجهيزات ومعدات القوات الخاصة الفرنسية، وقارنها بنظيرتها لدى القوات الأمريكية، فقال إنه بينما توجد في جميع المركبات الأمريكية أجهزة اتصال عبر الأقمار الصناعية تتيح لمستخدمي المركبة التحدث مع مسرح العمليات بأكمله، والتواصل مع الطيران لطلب الدعم، وفي حال عدم توافر ذلك فيمتلك كل جندي أمريكي جهازاً لاسلكياً يتيح له الاتصال بزملائه في المركبات الأخرى وبالدعم الجوي، بينما لم يتوافر سوى جهاز لاسلكي واحد لكل مجموعة قتالية فرنسية، وكذلك كما لم يمتلك الفرنسيون أجهزة تشويش ضد العبوات الناسفة وظلوا يستعيرونها من القوات الأمريكية، فيما اتسمت أجهزة الرؤية الليلية الفرنسية بأنها قديمة الطراز.
تراجع الإنفاق العسكري وتدهور الإرادة القتالية
عزا والتز التدهور في تسليح القوات الفرنسية إلى خفض باريس للنفقات الدفاعية وابتعادها عن الناتو قرابة 40 سنة، وقال متهكماً إذا كان هذا هو حال قواتهم الخاصة، فيمكن للقارئ تخيل حال جيشهم النظامي. وعموماً فقد تراجع الإنفاق العسكري الفرنسي من 3% من الناتج المحلي عام 1988 ليصل إلى 1.85% في عام 2019 بحسب تقديرات معهد سيبري، وهو ما يترجم بالدولارات إلى إنفاق فرنسا في عام 2020 قرابة 50 مليار دولار مقابل 252 مليار دولار تنفقها الصين و778 مليار دولار لأمريكا.
كذلك اتسمت الإرادة القتالية للفرنسيين بالضعف، ففي أفغانستان على سبيل المثال اضطرب الفرنسيون بعد تعرضهم، في أغسطس/آب 2008، لكمين محكم قرب كابول أسفر عن مقتل عشرة جنود وإصابة 21 آخرين، كما ساهم حادث مقتل المظلي لويس لوباج، وهو نجل جنرال فرنسي، في تسليط أضواء الإعلام الفرنسي على أسباب استمرار التواجد الفرنسي في أفغانستان.
كما جاءت نتائج استطلاعات الرأي في فرنسا لتشير إلى رغبة أغلبية الفرنسيين في الانسحاب، فيما حث السياسيون الفرنسيون القادة العسكريين على تجنب أي عمليات قتالية تتسبب في خسائر بشرية، وصدرت أوامر صريحة من ساركوزي بأن تكون القوات الأفغانية المرافقة للفرنسيين في مقدمة أي اشتباكات قدر الإمكان، بذريعة أنها أكثر دراية بالتضاريس.
وقد نقل والتز عن أحد القادة الفرنسيين في أفغانستان أن بلاده مازالت تعاني من شبح أحداث الجزائر والتي تضمنت مقتل ملايين المدنيين الجزائريين وقرابة 90 ألف جندي فرنسي، وأدت إلى تفكيك الجمهورية الفرنسية الرابعة، وبالتالي فبلاده ليست مستعدة لتحمل خسائر بشرية مجدداً.
إن تدني الإنفاق العسكري الفرنسي مقارنة بنظيره لدى أمريكا والصين وروسيا يشير إلى أن باريس غير قادرة على أن تقود قاطرة قيادة أوروبا عسكرياً بمعزل عن الناتو وواشنطن وبالأخص بعد مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي والقيود المفروضة على حجم وتسليح الجيش الألماني، كما أن الأداء القتالي الفرنسي في أفغانستان يعطي مؤشرات سلبية عن محدودية الإرادة القتالية والصلابة والقدرة على تحمل خسائر بشرية. وبالتالي فإن طموحات ماكرون ببناء جيش أوروبي موحد تلعب فيه فرنسا دوراً محورياً هي أقرب لأحلام اليقظة أكثر من كونها تعبيراً عن حقائق واقعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.