كنت قبل أسبوع أعيش حياة عادية مع أسرتي، وكنا نظن ظناً أن فيروس كورونا سيئ السمعة لن يطرق بابنا؛ إلا أن الجمعة الماضية وقع ما لم يكن في الحسبان، وأعلن فيروس كورونا عن نفسه ضيفاً ثقيلاً بيننا بادئاً باستيطان رئتي زوجي، ثم بعد يومين فوجئنا بأنه يسكن في أبداننا جميعاً أنا وزوجي وأبنائنا!
كان يعبث بأجسادنا كما يحلو له، فتارة يجعل الصداع يدق رؤوسنا، وتارة أخرى يؤلم أجسدانا، وأخرى يرهقنا من السعال وسيلان الأنف، هذا غير حرارة الجسم المرتفعة، ورغم ما مر علينا من أمراض إنفلونزا أو نزلات برد عادية، إلا أن للكورونا نكهة مختلفة، مربكة وغير مريحة البتَّة!
ولأن "كورونا" غير عادي، فالتوقعات معه غير عادية أيضاً، فقد كنت أظن أن خلال تلك الأيام القلائل لم يتمكن من إضرار رئتي؛ لكنني صُدمت بإصابتي بالتهاب رئوي صغير، إلا أنني استجابة لاقتراح الطبيبة دخلت مشفى للعزل -حيث أكتب كلماتي الآن- لكي أتمكن من أخذ دواءٍ خاصٍ يعالج هذا الالتهاب قبل تفاقمه.
غير أن ما جعلني أستجيب لاقتراح الطبيبة هو ذكرى خلفها أخٌ سابقٌ لفيروس كورونا وهو إنفلونزا الخنازير، فقد أصبت به في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إلا أن جهلي بالمرض وصبري على آلامي ورقودي في البيت دون طلب مساعدة طبية، قد أدى لالتهاب رئوي حاد، دخلت على إثره العناية المركزة وهناك كنت على شفا الموت إلا أن عناية الله أنقذتني، لكن أثَّر ذلك بشكل سلبي على رئتي فصارتا أكثر حساسية من ذي قبل، ولا أدري هل سيطبع "كورونا" بصمته الخاصة على رئتيَّ كأخيه أم لا!
ولا أخفيكم كم كانت ساعات الانتظار في المشفى الذي أجريت به الأشعة طويلة جداً، هذا غير انتظاري لذهاب زوجي لإحضار حقيبة ملابس لي، وقد اقترح إحضار أولادنا معه في السيارة لأتمكن من توديعهم؛ فقد كان أقسى شيءٍ علي في مرضي بإنفلونزا الخنازير هو منعهم من زيارتي بأمرٍ طبي لمدة ستة عشر يوماً كاملة، وبالفعل فقد حضروا معه وجلست معهم في السيارة أضحك معهم وأوصيهم بأنفسهم وبوالدهم خيراً، حتى أتت سيارة نقل للمرضى أقلتني إلى مشفى العزل الذي أمكث به حالياً.
وكنت وكأن لساني حالي يقول لصغاري هذه الأبيات البارعات (بتصرف) للشاعر العماني أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني:
صبراً بُنيّ على الزمان وصرفه.. إن الزمان محارب الأحرار
أين الفرار عن المقدر للفتى.. إن الأمور رهائن المقدار
وكل الأمور إلى المهيمن إنه.. تدبيره يقضي على الأفكار
كم كربة نزلت وضاق نطاقها.. فتفرجت باللطف والأيسار
ما خاب من وكل الأمور لربه.. فهو المفرج كربة الأعسار
ورغم كل ما حاولت التظاهر به من جلد فقد كنت أبكي بكاء مريراً في سيارة النقل هذه، حتى إذا كنت في الصباح التالي لبست قناع التجلد والكتمان والصبر وكم كان هذا قاسياً للغاية وفوق احتمالي ووهني.
إن أشد ما شعرت به و لمسته في هذه المحنة أن العيش تحتَ مظلة كورونا لا يشبه العيش تحت أي ظرف آخر، فالمجهولُ هو سيد الموقف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فأنا منذ إصابة زوجي لم أعد أعرف ما الذي تخبئه لي اللحظات التالية، ما الذي سيحدث في الغد، هل سنكون بخير، أم هل سيلحقنا مكروه، وفكرةُ أن يجهل المرء مصيره أو مصير أحبائه هي فكرة مرعبة، كنت أحاول ألا أفكر، فكلما أمعنت في التفكير شعرت بأني أدخل نفقَ الاحتمالاتِ اللانهائية السيئة، فيخفق قلبي بشدة وأشعر ببرودة أطرافي من شدة التوتر، عدا الأحلام الغريبة، والكوارث التي تلاحقني في بعضها والتي أفيق منها على مشهد الموت أنني في لحظة صعود روحي لبارئها!
ولم يقتصر القلق عليَّ أنا فقط أو على أهلي -نحن عالم الكبار- فقد أصاب صغاري أيضاً، فقد كان يبكي طفلاي في بداية الأمر رعباً أكثر منه ألماً، أما ابني البكر فقد كان غاضباً ويرفض الحديث في الأمر، ولكن كعادة الأطفال ولا يستثنى من ذلك من هم على أعتاب المراهقة، فإنهم يتناسون الهموم في زحمةِ عوالمهم الصغيرة البريئة، فحيناً يلهون معاً وحيناً آخر يتابعون أحد رسومهم المتحركة المفضلة وأحياناً أخرى يتشاجرون معاًً، وهكذا يمضي يومهم بين ضحكة ودمعة ثم نوم.
ورغم وضعي، فإني والحمد لله أفضل حالاً من آخرين قد هدَّهم الكوفيد وتمكن من رئتيهم، ولا أنسى أصحاب الأمراض الخطيرة الذين يتألمون ويتحملون، وقد يعانون من الرقود في المشفى لأشهر أو لسنوات، كيف يتأقلمون مع حياتهم، كيف يرون المستقبل، ولا أنفك داعية لهم بالشفاء العاجل، هذا غير كبار السن الذين صادفتهم هنا في المشفى، كيف يتعلقون بالأمل، كيف يستبشرون بالغد؟
فاللهم اشفنا واشفِ كلَّ مريضٍ تألم، وارحم ضعفنا وارفع درجاتنا وأكرمنا برحمتك وجزيل لطفك، وارفع عنا البلاء والوباء فأنت القادر على كل شيء يا رب العالمين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.