في كثير من البيوت يتوافق الزوجان على تسمية الأبناء بكل سلاسة، فيراعيها وتراعيه ويمر الأمر بسلام، وبالتراضي والوئام، وكم من أم قابلناها في مجالسنا النسائية وفي الإعلام، وكانت فخورة وسعيدة بأنها من اختارت اسم مولودها، وشرحت وفَصَّلت كم كانت تحب هذا الاسم، وأنه كان كنيتها قبل الزواج، وقد حققت أمانيها.
وأنظر لابنها فأراه قد تجاوز الأربعين، وهي ما زالت تشعر بنشوة مناداته باسمه، مما يدل على أهمية هذه الأمور وعمقها في كيانها، فتأملوا كيف هي الأنثى!
وبالمقابل، كم وجدت من أم متألمة تترقرق الدموع في عينها وهي تتحدث في المجالس، أو تكتب لي، أو تستفتي وتتظلم: كيف حُرمت من تسمية طفلها، وهل يحق ذلك لمن حرمها؟
وما زالت الكثيرات يعبرن عن كراهيتهن لأسماء أبنائهن أو بناتهن، فتناديه: حمودة أو سوسو (وقد صار رجلاً، وبنتها جَدَّة)؛ لتتهرب من اسم لصق بها وبهما ولم يُرضها.
وأعرف أماً تتكنى باسم ابنها الثاني لأنها أُكرهت على اسم الأول؛ فتُنادى هي بكنية، وزوجها بأخرى!
وعرفت عدة أمهات تنادي ابنها بالاسم الذي تمنته له، ويناديه سائر الناس باسمه الذي دُوِّنَ بهويته وأوراقه الثبوتية.
بل عرفتُ سيدة غيرت اسم ابنها وقد تجاوز العاشرة، وعرفتُ من رفع دعوى بالمحكمة، وتحمل المشاق وتكلف المال الكثير ليغير اسمه (حين بلغ رشد). فالكره والنفور من الأسماء قد يمتدان للأبناء أيضاً.
فموضوع التسمية جداً مهم أيها المسلمون، وليس تافهاً ولا سخيفاً، كما يحاول بعضهم الإيحاء بهذا:
1- بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بإحسان الأسماء؛ فالاسم يُنادى به يومياً في الدنيا، وتُدعى به يوم القيامة.
2- وبدليل تمسك الآباء بالتسمية (ولو كانت أمراً سخيفاً لترفعوا عنه وتركوه للأمهات).
3- وبدليل المشكلات الكبيرة والشروخ التي تحدث بالبيوت، بعد إجبار الأمهات على أسماء يكرهنها، أو بعد الاستئثار بتسمية كل المواليد، فالتسمية تهز وتزلزل العلاقة بين الزوجين، وهي من أكثر وأعنف الأمور التي تسبب روابط سلبية:
لأن الأم كلما نادت طفلها (وما أكثر ما تناديه) سوف تتذكر كيف تمت التسمية، خاصة أن المرأة تكون بعد الولادة ضعيفة، متعبة، ومصابة باكتئاب الولادة، فحين يترافق معها الإكراه، يسارع ذلك في تخريب العلاقات الزوجية الجميلة، ويجلب المشاحنات.
فإذن "تسمية المولود" موضوع مهم، ويحتاج حسماً:
وإن التسمية بالأصل مسألة أسرية اجتماعية، ولذلك لم يتحدث الفقه عنها، ولم أجد في المذاهب الأربعة والقرون الأولى فتوى بهذا الشأن، وأول من كتب عنها -حسب علمي- ابن القيم في كتابه "تحفة المودود في أحكام المولود" الْفَصْل الْخَامِس فقال: "التَّسْمِيَة حق للْأَب لَا للْأُم، هَذَا مِمَّا لَا نزاع فِيهِ بَين النَّاس, وَأَن الْأَبَوَيْنِ إِذا تنَازعا فِي تَسْمِيَة الْوَلَد فَهِيَ للْأَب". فجعل التسمية حقاً خالصاً للأب عند النزاع، وما أكثر النزاع في عالمنا اليوم بشأن الأسماء، وبذلك حولها ابن القيم لمسألة فقهية، ولفتوى شرعية.
ولأن العلماء تناقلوها من بعده، أصبحت وكأنها إجماع، ومازال يُفتى بها في كل زمان ومكان، فعلى ماذا استند ابن القيم؟
وسوف أسرد ما قاله مع الرد والتساؤلات التي جَدَّت:
1- قال: "هذا مما لا نزاع فيه بين الناس".
وأعتقد أن هذه ليست حجة شرعية، وإنما هي حجة "عرفية" تتبدل بتبدل الزمان، وهي فعلاً قد تغيرت اليوم.
2- وقال "هي للأب بدليل: (ادعوهم لآبائهم) فهو يُنسب لأبيه ويقال فلان (أو فلانة) بن فلان".
ولا ننسى ابتداء أن هناك من نسب إلى أمه: "ابن أم مكتوم، ابن مليكة، ابن الحنفية، وابن ماجه، وابن تيمية، وغيرهم"، والنسب للأم حلال ومقبول، وبالطبع لا ينفي ولا يؤثر على النسب للأب.
والآية الكريمة لا تتحدث عن الاسم الأول للإنسان، وإنما عن "ضرورة الانتساب للأب" وهو حاصل بالطبع، واختيار الأم "للاسم الأول لمولودها" لا يؤثر على نسبه ولا يخالف الآية الكريمة.
بل إذا أكرم الله والد الطفل بحمل: (1) اسمه (2) واسم عائلته أيضاً -فأخذ الأب فضل الانتساب وفخر الأبوة- فمن العدل والتكامل والإنصاف، أن يحمل الطفل اسماً تحبه أمه إكراماً لها وتعويضاً عن جهدها. ويكون بذلك للأب مكرمتان (اسمه واسم عائلته)، مقابل مكرمة واحدة للأم "المشاركة باختيار الاسم" (والتي لن تكون خالصة لها وإنما سيشاركها فيها الأب).
ومن حق الزوجة أماً أن تُسـتأمر -على الأقل- بابنها البكر، لأنها ستحمل اسمه مدى الحياة، وستنادى "أم فلان"، ومن السنة نداء الإنسان باسم يحبه.
وتنبع هنا مجموعة من التساؤلات:
– فكل عائلة يكون فيها مجموعة من المواليد، فهل يكون الخيار للأب وحده دائماً؟
– وفي كل ولادة؟ ولو كان المواليد عشرة مثلاً؟
– وهل يكون الخيار له وحده في البنين والبنات؟
– وأين الدليل على هذا؛ وقد كرم الله المرأة زوجة وأماً، وأعطاها حقوقاً إنسانية مكافئة لزوجها أباً، وأوصى بأن يكون "الفصال" ليس فقط عن تشاور، وإنما عن تراض؟ وإذا كان "الفصال" مسألة عابرة، وتكون مرة بحياة الطفل ورغم ذلك أمر فيها بالتراضي، فكيف تكون "التسمية للأب" وهي مسألة أعمق وأخطر وذات ديمومة؟
وإن الله فضل الأم، وخصها بالوصاية بالقرآن والحديث زيادة عن الأب؛ فبماذا يكون التكريم الخاص بالأم لقاء حملها وتعبها وقد حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وحملته وهناً على وهن؟
هناك من أجاب على ذلك فقال: "لا يشترط أن تحصل الأم على مقابل لتعبها في الدنيا والأفضل لها أن تأخذه في الآخرة"!
ويُرد على هذا: "علام يُؤخر أجر الزوجة أماً، وفي الحديث أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وجاء بالدعاء الذي هو آية قرآنية: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة"، فعلام نحرمها من حسنة الدنيا وهي جميلة ومطلوبة شرعاً وعرفاً وخلقاً ووفاء ومروءة؟ ولماذا يؤخر أجر الأم وحدها، ولا يؤخر أجر زوجها (مادام أجر الآخرة خير وأفضل)، أو يكون الأجر مرة لها ومرة له، أو يكون لها الثلث منه حين تسمي ثلث أولادها، أو نصفهم (كما الميراث)، أما أن تخرج بلا شيء -إذا تعنت الزوج- فهذا غير منطقي، وينافي العدل".
ولماذا نسمع في المواعظ ونقرأ في الفتاوى أنه: "على المرأة أن تتصبر دائماً وتتحمل المشقات لتحقق رغبات الرجل ويعتبر دورها وواجبها، وقد جاء بالشرع ما يخالف هذا، فطُلب من الزوج التفهم واللين والمسايرة: استوصوا بالنساء خيراً، وثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان إذا هويتْ عائشة شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه (زاد المعاد، هديه في النكاح، لابن القيم)"؟
3- إن الولاية للرجل فله التسمية
وجاء أيضاً في الفتاوى المعاصرة: "لا بأس أيضاً أن يتنازل الأب عن حقه في التسمية لغيره من الأقارب وخاصة أمه التي يجب عليه برها والإحسان إليها وطاعتها في غير معصية".
والجواب: إذا كانوا يحثونه على التنازل لأمه من باب البر، فعلام لا يتنازل لزوجته من باب المرحمة والمودة والسكينة التي جعلها الله بينهما؟! أليست الزوجة أولى لأنها الرحم الأقرب، والوالدة المباشرة للطفل والحاضنة له، فيكون حقها كبيراً؟
وفي السعودية يفتون: "وإذا كان أب المولود غير موجود فيسميه الأكبر من أولياء الطفل"! وهكذا أعطوا "حق تسمية المولود" لأي قريب ولو بعيد، إلا أمه التي ولدته.
فلماذا؟ ولقد ثبت شرعاً أن:
– الوصي والولي على المولود كلا الوالدين.
– وورد بالصحيح أن الأم أيضاً راعية في بيتها ومسؤولة عن رعيتها، وبالتالي يجب أن يتشاركا في كل شيء.
– ويصح شرعاً أن تكون الأم ولية على الصغار حال غياب الأب.
– كما أن الأم تلزم بالنفقة على زوجها وعلى أولادها في حال كانت غنية، وتجبر عليها، وإذا كان عليها الغرم بالملمات، فلا بد أن يكون لها الغنم بالرخاء، حسب القاعدة الشرعية.
4- القوامة للرجل فله التسمية:
والجواب: إذا كان كذلك فأين ومتى سوف نستعمل ونستفيد، ونفتي بقوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"؟ فدائماً -وعند الخلاف- يحسم المفتون القضايا بـ"الدرجة" و"القوامة" لصالح الزوج.
ومتى يكون التكامل الذي يتحدثون عنه إذا كان في كل أمر وخلاف ليس للمرأة شيء؟
وأين التخصصات في الأسرة، إذا لم تكن الأمومة والمواليد هي رأسها؟
وأين مكانة الأم الكبيرة العظيمة؟ فالزوجة هنا أصبحت أماً، والتسمية حلم ورؤية ومتعة، وعلاقة متينة قوية بينها وبين طفلها الذي سوف تناديه به عشرات المرات، وستكون معه طول النهار والليل.
وإنه ومن أساسيات القوامة "حسن العشرة" أي عدم إيذاء الزوجة معنوياً، وتطييب خاطرها، والتشاور معها، وما أكرمهن إلا كريم، ومنه المشاركة بتسمية مولودها بعد ما حملت وتعبت وتألمت ووضعت. ولعل الأزواج لا يعرفون كم يقوي هذا علاقتهما، ويزيدها متانة وعمقاً (والعكس صحيح).
ومن الأدلة التي استندوا إليها:
ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، حين رزق بابنه إبراهيم من ماريا القبطية: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم".
والجواب:
– لا ندري لعله شاورها فوافقت، فقال "سميته" على اعتبار أنه هو اختار الاسم أولاً.
وربما لم يسألها لأن مارية كانت جارية فلها أحكام خاصة، فهذه الحادثة ليست دليلاً بحال.
– وإن النبي عليه السلام سمى أول مولود بعد الهجرة، حيث حملته أسماء إليه بنفسها وبإرادتها وموافقتها (وليس الزبير)، فحنّكه وبارك عليه وسماه عبد الله باسم جده أبي بكر.
وثبت عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يعرضون مواليدهم على النبي فيسميهم، فهل نستنتج أن تسمية المولود من حق الشيخ أو العالم؟ أو أمير المؤمنين أو الحاكم؟ أم هي خصوصية للنبوة؟
– وإن تصريح "امرأة عمران" الذي ورد بالقرآن دليل متين وواضح، حيث قالت بآية قطعية الثبوت وقطعية الدلالة: "وإني سميتها مريم"، وهو الدليل الأول للاستناد عليه، لأنه شرع من قبلنا (وإن كان هناك من عَلّل تسميتها لابنتها بموت أبيها! ولو كان كذلك لقالت أم مريم وبررت، أو تولى قرابتها من الذكور "التسمية"، ولما تجاوزت أم مريم أولياءها)، وبالتالي لا يمكن التشكيك بهذا الدليل، وهو مثل الشمس.
– وإن تسمية المولود حق للطفل بشكل أساسي، هذا ما قاله الرسول، وما ذكره العلماء، ومن أول حقوق الطفل على والديه "اختيار اسم حسن له".
هذا كل ما وصلت إليه مما قيل بالمسألة، وخلاصته:
– "التسمية حق للأب" وهي رأي خاص واجتهاد من ابن القيم اعتمد فيه على أدلة قابلة للنقض والمراجعة، ولأنهم تناقلوه دون تمحيص بدا وكأنه لا خلاف فيه، مع أن تسمية المولود من "المعاملات" وهي أمور اجتهادية، وليست من الأحكام الثابتة بالشرع بدليل قطعي ولا حتى ظني، وبالتالي هي قابلة للبحث والنقاش، ونتأمل مراجعتها.
ولذلك ستجدون من أنصف وقال: "والحقيقة أنه لا يوجد دليل بالشرع على حق الأب بالتسمية، والأصل أن تكون التسمية بالمشاركة والتفاهم ورضا الطرفين، وعلى الزوج أن يكرم زوجته".
وستسألون وما الحل إذا اختار كل منهما اسماً، وبقي الخلاف قائماً؟
الحل سبق ونشرته على صفحتي على الفيس 2013 :
– على الأقل لا يسميه الأب اسماً تكرهه الأم.
– يقدم الاسم الأحسن، والأقرب للشرع.
– وإذا رغب الأب باسم ما بقوة، أو اضطر لتسمية الطفل على اسم ما لظرف ما؛ فعليه أن يعوضها فيترك لها الحرية الكاملة لتسمية الطفل التالي بلا قيود ولا شروط، مروءة وعدلاً منه. وليته -حتى ذلك الحين- يرضيها وينسيها بأمور أخرى تسعدها، فلعل المدة تطول، أو لا تحمل من بعده.
– وقلت الأفضل والأصوب والأسلم أن "يتوافقا على اسم ثالث"، وعجب كثيرون من اقتراحي ذاك لأنهم يظنون فتوى ابن القيم لا مخالف لها، على أني من قريب وجدت في كتاب "الشرح الممتع" الذي يُدَرَّس للطلاب بالسعودية ما يلي: "حين يتعارض خيار الأم والأب إن أمكن أن يجمع بين القولين باختيار اسم ثالث يتفق عليه الطرفان فهو أحسن، لأنه كلما حصل الاتفاق فهو أحسن وأطيب للقلب". وهذه الفكرة كلها عقل وحكمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.