تعتبر ثورة عبد الرحمن بن الأشعث من أعنف الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ووالي العراق تحديداً الحجاج بن يوسف الثقفي.
في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (646-705)، تمكنت الدولة الأموية خلال فترة قصيرة من بعد وفاة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية عام 683 ميلادية من القضاء على كل الحركات الانفصالية التي ضربت جسم الدولة الأموية وهددت كيانها، سواء كانت حركة أو دولة كحال عبد الله بن الزبير في مكة أو الخوارج في العراق وبلاد فارس.
إلا أن عبد الملك بن مروان لم يهنأ بانتصاراته هذه، حتى تفجّرت في وجهه ثورة عبد الرحمن بن الأشعث التي انضم إليها خلق كثير من الحانقين على دولة الأموية في العراق وبلاد فارس وعلى سياسات الحجاج بن يوسف الثقفي القمعية وقتها، كما شارك وانضم لها عدد من العلماء أمثال سعيد بن جبير، فما قصة تلك الثورة؟
في عام 80 هجرية/699 ميلادية توجه عبد الرحمن بن الأشعث، وهو القائد العسكري في الدولة الأموية آنذاك، إلى بلاد سجستان، إحدى محافظات إيران الإحدى والثلاثين، وتقع جنوبي شرق إيران على الحدود مع باكستان وأفغانستان، وعاصمتها مدينة زاهدان، توجه بناءً على أوامر من الحجاج بن يوسف الثقفي بعد هزيمة جيش عبيد الله بن أبي بكرة على يد ملك الترك وقتها رتبيل في سجستان.
وقد تمكن عبد الرحمن بن الأشعث في فترة وجيزة من إلحاق الهزائم متتالية بجيش رتبيل، لكن عند دخول موسم الشتاء أوقف عبد الرحمن بن الأشعث تقدمه صوب بلاد سجستان حالما ينتهي موسم الشتاء، وأرسل يخبر الحجاج بأمر توقفه، فغضب الحجاج من فعلته وأرسل له رسائل تدعوه للاستمرار بالمعركة بأسلوب فظ به من التحقير والتصغير ما فيه، وتوعده بعزل وتعيين أخيه إسحاق بن محمد الكندي بدلاً منه.
هنا غضب عبد الرحمن بن الأشعث أيما غضب من تحقير وتصغير وتهديد الحجاج له، فشاور جنده بالأمر، فدعوا إلى خلع من سموه "عدو الله" الحجاج، فأعلن عبد الرحمن بن الأشعث ثورته ضد الحجاج والدولة الأموية، وانقلب ابن الأشعث بجيشه عائداً للعراق قاصداً الحجّاج لتأديبه، وانضم إليه في طريقه أعداد لا تحصى من الحانقين على الحجاج وسياساته القمعية في بلاد فارس والعراق، وتمكن عبد الرحمن بن الأشعث من إلحاق الهزائم المتتالية بالحجاج، واستولى على حواضر العراق كالبصرة والكوفة، استمر ثورة ابن الأشعث هذه ما يقارب أربعة أعوام، اضطرب خلالها أمر العراق بالكلية.
هذه التطورات أرعبت عبد الملك بن مروان ما دعاه لأن يرسل أخاه محمداً وولده عبد الله برسالة للثائرين يقول فيها: (إن كان يرضيكم خلع الحجاج عنكم خلعناه، وجعلنا مكانه محمد بن مروان، وأن يكون عبد الرحمن بن الأشعث أميراً على أي بلد يحب)، شعر الحجاج بضعف موقفه فحذر عبد الملك بن مروان من غدر أهل العراق، وذكره بما جرى أيام خلافة عثمان بن عفان عندما الذي استجاب لرغبة أهل العراق وقتها في خلع سعيد بن العاص عن ولاية العراق، وكيف أنهم -أي أهل العراق- طمعوا ولم يقنعوا بل ساروا إليه وقتلوه في المدينة، إلا أن عبد الملك بن مروان لم يكترث لرأيه وأرسل أخاه وولده، فقام ابن الأشعث بعرض الأمر على رجاله وحاشيته إلا أنهم رفضوا العرض تماماً.
عندما رفض الثوار عرض عبد الملك بن مروان أرسل للحجاج يأمره بمواصل قتال بكل ما أوتي من قوة ووعده بالمؤازرة بالجند والسلاح والمال، هنا اعتمد الحجاج بحكم خبرته العسكرية الطويلة مع الخوارج على سياسة النفس الطويل في أول مواجهة مع ابن الأشعث في معركة "دير الجماجم" -منطقة تقع بين البصرة والكوفة في العراق- عام 83 هجرية/702 ميلادية، إذ نظم الحجاج جيوشه أمام جيوش ابن الأشعث، ونشبت بين الفريقين حرب ما تكون أشبه بحرب الاستنزاف أو حرب العصابات كما هو متعارف عليها اليوم، ورغم أن جيش ابن الأشعث كانت تأتيهم المؤن من الأقاليم والمقاطعات التي كانت تحت سيطرتها بحكم قربها لأرض المعركة، إلا أن جيش الحجاج الذي كان يمر بضيق شديد ونقص بالمؤن والجند تمكن من الصمود أمام ضربات جيش ابن الأشعث في أكثر من 80 معركة وموقعة.
وما زال الحجاج وجيشه على هذا الحال حتى جاءت الفرصة المواتية للحجاج للقيام بهجوم خاطف نحو إحدى كتائب ابن الاشعث وهي كتيبة "القراء" المشهورة بالقوة والبأس على حين غفلة، فهاجمها الحجاج وتمكّن من اختراق صفوف مقاتليها الأشداء حتى أفناها عن بكرة أبيها.
شكل سحق كتيبة "القراء" ضربة قوية لجيش عبد الرحمن بن الأشعث فاختل توازن الجيش وفرُّ أفراده في كل اتجاه، وفر ابن الأشعث من أرض المعركة، فتتبع الحجاج الفارين فأمعن فيهم قتلاً وأسراً، وسار يلاحقهم ويحرر الأقاليم والمقاطعات التي وقعت في بداية الصراع بيد عبد الرحمن بن الأشعث وجنده، ثم أخذ الحجاج يتتبع كل من خرج أو أيد أو شك في تأييد ثورة عبد الرحمن بن الأشعث، فأمعن فيهم قتلاً وتنكيلاً، حتى قيل إنه قد قتل ما يقارب 130 ألف، كان آخرهم سعيد بن جبير.
وأمام خسارته الساحقة هذه لم يجد عبد الرحمن بن الأشعث من بد إلا الاحتماء بملك الترك رتبيل، عدو الأمس، فدخل في حماه، فأكرمه رتبيل وعظَّمه. إلا أن عبد الرحمن بن الأشعث لم يهنأ بحمى رتبيل، إذ سارع الحجاج لمراسلة رتبيل ملك الترك يتوعده ويتهدده ويقول له: "والله الذي لا إله إلا هو، لئن لم تبعث إليَّ بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل وأخربنها".
هنا شعر رتبيل بالرعب وضعف موقفه، فأرسل يشترط على الحجاج ألا يقاتله 10 سنين، وأن يؤدي في كل سنة 100 ألف من الخراج فوافق الحجاج، فعندها غدر رتبيل بابن الأشعث وقتله وأرسل برأسه للحجاج، في رواية أخرى أقدم ابن الاشعث على الانتحار حينما أيقن بأنه سيقع بين يدي الحجاج ألد أعداءه لا محالة، وكان ذلك في سنة 85 هجرية/704 ميلادية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.