كثير منا قرأ عن معركة نهاوند واليرموك والقادسية، لكن من منكم سمع بمعركة الملوك الثلاثة أو معركة وادي المخازن.
كانت سنة 1492م تاريخاً مفصلياً في تاريخ الأمة الإسلامية عامة وبلاد المغرب الأقصى بشكل خاص، بل لايزال تأثير سقوط الأندلس وضياع الفردوس المفقود من أيدي المسلمين إلى يومنا هذا غصة في قلب الأمة الإسلامية، ولايزال المغرب يدفع الثمن إلى يومنا هذا.
كتبت إيزابيلا، ملكة قشتالة، آخر وصاياها وهي على فراش الموت:
"أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية، والدفاع عنها دائماً وأبداً بكل غالٍ ونفيس من الأموال والأرواح. وآمركم بعدم التردد في التخطيط لتنصير المغرب وإفريقيا، ونشر المسيحية فيهما ضماناً حقيقياً لكل استمرار كاثوليكي في جزيرة أيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب مُشتتاً جاهلاً فقيراً مريضاً على الدوام والاستمرار".
إيزابيلا كانت تعلم علم اليقين عودة الدولة الإسلامية، وأن السبيل الوحيد لمنع ذلك تشتيت المغرب وتقسيمه وتقزيمه، وهي الوصية التي نُفذت بحذافيرها وتنفَّذ إلى يومنا هذا، فأوروبا وعلى مر التاريخ لم تعرف أي غزو إسلامي إلا من الحدود الشرقية عبر تركيا، خاصةً الدولة العثمانية، أو عبر المغرب خاصةً المرابطين والموحدين والسعديين.
استغلت البرتغال ضعف الدولة المغربية فاحتلت سبتة سنة 1415م ومليلية سنة 1497م، بعد خمس سنوات من سقوط آخر قلاع الأندلس، حاول البرتغاليون بهذا وقف أي محاولة للعودة للأندلس.
كل هذا لم يكن ليطمئن الإسبان والبرتغال للمغرب، فقررت البرتغال كسر شوكة الدولة السعدية الناشئة؛ وذلك تنفيذاً لوصية إيزابيلا ملكة قشتالة.
كان المغرب آنذاك يعاني الضعف والأزمات وتزايد الثورات في كل جهاته، وكان الجيش السعدي قد خرج مؤخراً من معركة طاحنة مع انكشارية الإمبراطورية العثمانية التي لا يُشَقُّ لها غبار والمتاخمة للحدود الشرقية للدولة المغربية إيالة الجزائر.
انتهى الصراع بمعركة وادي اللبن بحدود العاصمة العلمية فاس، والتي انتهت بهزيمة سحقت كل أمل لسلطان الأستانة في دخول المغرب، وهي العاصمة التي قال عنه المؤرخون في ذلك الوقت، إن عواصم الدول العربية هي عقد اللؤلؤ الذي لا يكتمل إلا بجوهرتيه: المحروسة في مصر، وفاس في المغرب.
لم يهدأ الوضع إلا قليلاً حتى سعت أوروبا إلى إنهاء الخطر الإسلامي القادم من المغرب بعد طرد الموريسكيين وما عاشه المسلمون واليهود في محاكم التفتيش، قررت أوروبا إرسال جيش عرمرم بدعم من الكنيسة الكاثوليكية بقيادة الملك الشاب سيباستيان ملك الإمبراطورية البرتغالية وفيالق من دول أوروبا كاملة، 12 ألفاً من البرتغال و20 ألفاً من إسبانيا و5 آلاف من البابا و4 آلاف من ألمانيا و3 من باقي أوروبا و6 آلاف من المغاربة الذين قاتلوا بجانب المتوكل، فاعتبرها البعض حملة صليبية جديدة لكن في اتجاه الغرب الإسلامي.
لكنه وجد في انتظاره جيشاً أقسم أن يذيق أوروبا ويلات ما ذاقه المسلمون في الأندلس آلاف المرات، فتحوَّل وادي المخازن– وهو وادٍ يقع على امتداد إقليم العرائش، حيث وقعت المعركة بالقرب من مدينة القصر الكبير- إلى اللون الأحمر القاني، وطفت عليه جثث جنود أوروبا وسقط سيباستيان ملك البرتغال، لينتهي حلم أوروبا في السيطرة على المغرب الأقصى.
حملت المعركة عدة أسماء، من بينها معركة وادي المخازن نسبة إلى المكان الذي جرت فيه، ومعركة "الملوك الثلاثة"، حيث سقط فيها سيباستيان ملك البرتغال ومحمد المتوكل أخو الملك السعدي الذي طالب بالحكم واستقوى بالأوروبيين، وعبد الملك الأول السعدي الذي استُشهد في المعركة أيضاً؛ لما كان يعانيه من مرض، كما لقَّبها المؤرخون المسلمون بمعركة بدر الثانية.
انتهت المعركة وتردد صداها في أوروبا كاملةً من هول الصدمة. سقطت البرتغال حرفياً، حيث قُتل في المعركة كل قادة وبلاط وجند أوروبا، خاصةً البرتغال، ما جعلها لقمة سائغة في يد الإسبان سنة 1580م.
أجَّلت المعركة كل أحلام أوروبا في السيطرة على الغرب الإسلامي لأربعة قرون، لتعود وصية الملكة إيزابيلا مرة أخرى إلى الواجهة.
بقي البرتغاليون عقوداً في انتظار عودة سيباستيان وعودة المجد البرتغالي فيما يطلق عليه (سيباستيانية)، بل لا يزال إلى يومنا هذا من يعتقد أن الملك سيباستيان لم يُقتل بل هرب إلى جزيرة نائية وأن نسله سيعودون إلى البرتغال يوماً. فكُتبت حوله العديد من القصائد حتى وُضع بمنزلة المهدي المنتظر في الثقافة الشعبية.
"مجنون، نعم، مجنون، لأني اشتهيت العظمة
هذه التي لا يمنحها القدر.
لم أستطع احتواء يقيني داخلي
ولهذا، وحيث يقوم الشاطئ الرملي،
فإن وجودي هو ما بقي وليس ما هو قائم.
جنوني، دع الآخرين يتقبلونه مني
وكل ما يحتويه
فمن دون جنون ما هو الإنسان
إن لم يكن مجرد حيوان جيد الصحة
وجثة مؤجلة تتوالد باستمرار؟"
وخصص اليهود المغاربة الذين هربوا من محاكم التفتيش، عيداً للاحتفال بمعركة "وادي المخازن"، يسمونه بوريم سيباستيانو، لأنهم يشبهونه بعيد بوريم، الذي يُحتفل فيه بمعجزة إلهية أنقذتهم من مذبحة، فوفقاً للتقاليد، وعد دون سيباستيان بأنه "إذا انتصر وفتح المغرب، فسيذبح بالسكين كل يهودي لا يقبل التنصير"، وكانوا يخشون من إنشاء محاكم تفتيش برتغالية بالمغرب.
يحتفل اليهود بهذا اليوم سنوياً وتُغلق فيه المحلات ويتوقف العمل ويتصدقون فيه على الفقراء، ويدعون في صلاتهم بالخير لسلطان المغرب، وفي بعض المعابد في تطوان ترمى النقود المعدنية على الأرض بعد قراءة التوراة ليلقطها الأطفال، وتقدَّم لهم الهدايا، ويأكل البعض فاكهة التين الشوكي وقت الظهيرة، لأنه وفقاً للأسطورة، توفي سيباستيان وسط أشواك هذا الصبار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.