كان معلوماً للجميع أن النتيجة الحتمية لنهاية اتفاق البرهان – حمدوك هي استقالة الأخير في ظل التعقيدات السياسية التي حدثت بعد توقيع الاتفاق الموقع بعد انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، كان واضحاً منذ البداية أن الشروط السياسية التي جاء بها الاتفاق وطبيعته أصلاً لا تسمح بعمل أرضية وبداية جيدة لأي عملية سياسية تحقق الاستقرار السياسي بالبلاد وتفتح نوافذ جديدة وأفقاً واسعاً وجديداً لعملية الانتقال.
يبدو أن الرجل اكتشف متأخراً أن توقيعه على الاتفاق مع البرهان كان طوق النجاة بالنسبة للانقلابيين وحمايتهم من الداخل ومن المجتمع الدولي. حمدوك عجز عن إيقاف ما يحدث من عُنف وسفك دماء، وهو أمر محزن ومأساوي بكل ما تعنيه الكلمة، وهو مدان ومرفوض، وتتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى آلة العنف العسكرية وقادتها، وتحديداً قادة المجلس العسكري، وبالدرجة الثانية تتحمل المسؤولية القوى السياسية التي تعمل على الدفع بالأمور نحو المواجهة الصفرية وتعجز عن إيجاد مخرج سياسي يحفظ الأرواح والدماء والبلد.
هذا العُنف هو جزء من مشهد كبير للفشل السياسي وانسداد الأفق، ولا يُمكن فهمه أو إدانته أو مواجهته وإيقافه بمعزل عن السياق السياسي الكلي.
هُناك سلطة أمر واقع، هي في الأساس جزء من إطار الوثيقة الدستورية، والذي بسببه وصلت الأمور لهذا الحد، باعتباره إطاراً قائماً على فكرة اقتسام السلطة بين العسكر والمدنيين وليس على أساس مشروع وطني أو رؤية وطنية. هذه الشراكة وصلت إلى نتيجتها الحتمية بإجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول، ومنذ ذلك الوقت تشكل واقع بمعطيات جديدة؛ فعادت أحزاب السلطة السابقة للتصعيد مطالبة بتسليمها سلطة كاملة، وهو مطلب غير شرعي وغير واقعي لا تسمح به المعطيات السياسية على الأرض، ولكن أصبحت الأمور أكثر سوءاً مع المزايدة الثورية من لجان المقاومة وواجهات الحزب العجوز بشعارات جذرية ترفض الشراكة والتفاوض وتطالب بسلطة مدنية كاملة، وكل ذلك بشكل اعتباطي بدون أي رؤية سياسية وبشكل عبثي تماماً.
إن استمرار المعادلة السياسية بهذا الشكل سيرفع تكلفة كل الحلول. التسوية تكلفتها سترتفع لو استمرت المواجهات والعنف، حتى الأحزاب السياسية التي تستثمر في المواجهات لن تستطيع العودة إلى التسوية إلا بثمن سياسي باهظ جداً. وكذلك كلفة الحل الثوري الجذري سترتفع للغاية؛ فكلما تورط العسكر في القتل والدماء، استماتوا في التمسك بالسلطة دفاعاً عن أنفسهم، ومجزرة فض الاعتصام أكبر دليل، وبالتالي كلما استمرت الأوضاع في التصعيد، ابتعدنا عن الديمقراطية وانتقال السلطة؛ إذ لا يُمكن لشخص مهدد بالمشنقة أن يسلم السلطة بانتخابات أو بغيرها.
اتفاق البرهان – حمدوك لم يحقق الهدف الذي قام من أجله الاتفاق، وهو شق الصف الوطني وتقسيم الشارع الثوري. الواقع الواضح كان قبل استقالة حمدوك هو أن الشارع السوداني لم يقبل بالبرهان وحميدتي في المشهد السياسي السوداني، كما لن يقبل به بعد ذهاب حمدوك في أي مشهد جديد، في ظل كل هذا الوضع المعقد عقب الانقلاب خرج حمدوك وقرأ ذات بنود انقلاب البرهان ومع ذات الجنرالات الذين رفضهم ويظل يرفضهم الشارع السوداني، وهذا برأيي أكبر خطأ ارتكبه حمدوك في حق الشعب السوداني وفي حقه هو شخصياً.
تعقيدات الوضع الآن وانفتاحه على الكثير من التناقضات في النهاية، إما أن تواجه البلاد سيناريو الانهيار أو قد يكون بشرى خير بتأسيس المشهد السياسي السوداني بقواعد وأسس متينة وصلبة إذا حافظت جميع أطياف النادي السياسي السوداني على التمسك بوحدة البلاد وضمان استصحاب الحكمة في أي شرعية دستورية قادمة لإخراج البلاد من خطر الانهيار الذي يهددها. الخوف من الحركات المسلحة وبعض الأحزاب المتعودة على شق الصف ووضع العقدة على المنشار في الكثير من القضايا السياسية السودانية. على الأحزاب السياسية والحركات المسلحة أن يحترموا رأي الشارع الثوري وأن يجعلوا الشعب السوداني أولوية لمرة واحدة فقط.
أي شرعية دستورية قادمة يجب أن تكون متنوعة ومتعددة ويكون طرفاها الأساسيان هما القوات المسلحة (إذا كفت أطماعها عن السلطة) والكتلة المدنية بصورة منتظمة ومشرعنة وبلا وسطاء، لأن هاتين القوتين كانتا قادرتين على قلب النظم السياسية عبر الانقلابات والثورة.
بعض المناصرين لحمدوك (الحمدوكيين) يتحسرون على ذهاب الرجل ويعتقدون أن استقالته تمهد لقضية تمزيق وتفتيت البلاد وانهيارها، هؤلاء يمكن أن نقول لهم أين هي الدولة التي يخشى البعض من انهيارها؟! أين المؤسسات؟! أين البيروقراطية ومدير المؤسسة الحكومية المدنية يتلقى خطاب إقالة معنوناً من قيادة الجيش!!، وأين الجيش نفسه؟! وجنوده وضباطه يقذفون المراهقين في الشوارع بالحجارة ويطاردونهم بالعصي؟! أين الدولة والميليشيات تنهب مدينة الفاشر والقوات النظامية تنهب الخرطوم، وتعطل العمل وتهرب الذهب وتغلق الميناء؟!
نحن حالياً في حالة انهيار الدولة، التي انهارت قدرتها على كل شيء سوى القتل والنهب. وفقدان الدولة للقدرة على القتل حلم نتوق إليه وليس كابوساً نتخوف منه، فما هو الفارق في وجود حمدوك أو ذهابه؟!
نتفق أو نختلف يجب القول إن مضمون استقالة حمدوك قليل القيمة لعدم ذكر الدماء التي أريقت، خاصة بعد تبرير حقن الدماء الذي ظل حمدوك يردده كثيراً بعد اتفاقه الموقع مع البرهان عقب الانقلاب، حمدوك لن يحكم بعد الاستقالة كما أنه لم يكن حاكماً قبلها.
شكراً حمدوك.. الرجل قدم خطاب استقالة مسؤولاً ومؤثراً. وفي النهاية لا بديل سوى التوافق والحوار. الآن حمدوك قدم استقالته للشعب السوداني الذي منحه الشرعية ولم يقدمها لمجلس السيادة الانقلابي وهذا إجراء يشكر عليه، وسيمضي حمدوك إلى حال سبيله والرجل يعرف جيداً أن يذهب، فمن كان يؤمن بحمدوك، فحمدوك قد استقال، ومن كان يؤمن بالله الذي نصرنا على المخلوع البشير وأعوانه فسوف سينصرنا الله على البرهان وزمرته، إن شاء الله، ومن كان يؤمن بالثورة فالثورة لن تستقيل وستنتصر عاجلاً أم آجلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.