عامٌ يمضي وآخر جديد يهلُّ علينا. تحمل البدايات دائماً أملاً في الأحسن، وأن الواقع مهما كان سيئاً يُمكن تغييره، لذا يتفاءل الكثيرون بتلك الذكرى آملين أن يكون القادم أفضل.
غالباً يُترجم هذا التفاؤل إلى "سلسلة آمال" يتمنّى الفرد منّا تحقيقها خلال العام الجديد، وهي عادة يزداد الطلب عليها خلال الأيام الأخيرة من كل عام، فلا أحد يريد أن يبدأ عامه الجديد إلا برؤية -ولو بدائية- لما يتمنّى تحقيقه مستقبلاً.
في عام 1954م، كتبت المؤلفة الأمريكية مارثا سموك (Martha smock) مقالاً حمل عنوان "سنة جديدة وأنتَ جديد"، أكدت فيه أنه من الخير الاستقرار على عدة قرارات لتنفيذها خلال العام الجديد ثم كتابتها على ورق، معتبرة أن مثل هذه الخطوة تعيننا على التفكير بشكلٍ واضح في قيمة حياتنا.
هذا التقليد ليس بالجديد أبداً، وإنما مارسه البشر منذ قديم الأزل.
البابليون أول مَن فعلوها
أقدم حضارة نعرفها مارست عادة "وضع أهداف السنة الجديد" خلال الاحتفال بنهاية السنة القديمة وقدوم الجديدة كانت الحضارة البابلية. فمنذ نحو 4 آلاف عامٍ اعتاد البابليون الاحتفال بالعام الجديد في مهرجان حاشد يُقام في شهر مارس (موعد بداية العام بالنسبة لهم وليس يناير مثلنا) ويستمرُّ 11 يوماً متتالية، منحوه اسم "مهرجان كيتو".
من أهم طقوس هذا الاحتفال تقديم العهود للآلهة بالأهداف التي سيسعون لتحقيقها خلال العام المقبل على أمل أن ينالوا بركتها ويظفروا بما حلموا بالفعل، كما اعتقد البابليون أن عدم تنفيذ هذه الوعود سيجلب عليهم غضب الآلهة.
كما أشارت المؤرِّخة آنا كاتارينا شافنر (Anna Katharina Schaffne) مؤلفة كتاب "فن تحسين الذات" إلى أن بعض الممارسات الشبيهة عرفتها الحضارة الصينية منذ عصورٍ موغلة في القِدم، لكنها لم تصلنا بكافة تفاصيلها.
بالمثل، عرفت روما القديمة ممارسة هذا الطقس الاحتفالي -نسبياً- بدأ في عهد الإمبراطور الشهير يوليوس قيصر الذي أقرَّ 1 يناير بدايةً للسنة عام 46 ق.م، واعتاد الرومان في هذا الشهر أن يتعهدوا بتحسين حياتهم وسلوكياتهم في العام المقبل.
بل إن شهر يناير ذاته اكتسب اسمه من الإله ذي الوجين يانوس، كرمز هدف به اليونان إلى اتخاذ العِبرة من الماضي والتطلُّع إلى بدايات جديدة في المستقبل تخلو من الأخطاء القديمة.
ومع انتشار المسيحية، احتوت الديانة الجديدة هذه المناسبة بين أضلعها، وعُرف عن المسيحيين الأوائل اعتبار أن اليوم الأول في العام أنه مناسبة ممتازة للتفكير في أخطاء الماضي والعمل على تحسينها في المستقبل/ العام الجديد
وفي عام 1740م، دشّن كاهن إنجليزي يُدعى جون ويسلي (John Wesley) طقساً دينيّاً منحه لقب "خدمة تجديد العهد"، أراده مكافئاً روحياً موازياً ومُعارضاً للاحتفالات الصاخبة التي باتت تُقام كل ليلة رأس سنة.
كأحد صور أشكال ثورته الدينية التي تمثّلت فيما نعرفه اليوم بـ"الطائفة الميثودية"، الرافضة لأشكال التدين القشري التي انتشرت بين المسيحيين، والدعوة للتمسُّك بالدين من أعماقه.
أراد ويسلي الهرب من احتفالات رأس السنة بقدّاس كنسي يُقام في نفس التوقيت ويتضمّن قراءة أجزاءٍ من الكتاب المقدس وبعض الترانيم وتنتهي باتخاذ الحضور لأهم القرارات التي ينوون تنفيذها في العام المقبل.
على خُطى الكاهن الإنجليزي ويسلي، حثَّت بعض الطوائف البروتستانتية المتشددة في أمريكا أبناءها على تجنّب الاحتفالات الصاخبة والاختلاء بالنفس لبحث أهم القرارات التي يسعون لتنفيذها في العام الجديد.
ومع نهاية ذات القرن صارت تلك العادة شائعة للغاية حول العالم لدرجة دأبت معها الصحف على استعمالها مثلما فعلت صحيفة "بوسطن" الأمريكية سنة 1813م في مقالٍ قديم دعت فيه الصحيفة الناس لاعتماد عادة اتخاذ قرارات جديدة في بداية كل عامٍ يكفّرون بها سوءات الأعوام الماضية.
وحتى الآن لا تزال هذه العادة منتشرة في الكنائس البروتستانتية الإنجيلية، وخاصة بين التجمعات الأمريكية المنحدرة من أصولٍ إفريقية.
أيضاً، اشتهرت بعض الطوائف من فرسان العصور الوسطى لطقوس احتفائية في نهاية كل عام لـ"تجديد التعهد بالفروسية"، والتعهد بأنهم سيُحافظون على تلك القيم في العام المقبل، واشتهرت تاريخياً باسم "نذر الطاووس" لأن هذه المراسم كانت تتم على طاولة موضوع فوقها طاووس مشوي. فهل يُمكننا اعتبار هذا الطقس جذراً عتيقاً للحضور الدائم للديك في الاحتفالات الأوروبية بنهاية العام؟
هل هذه العادة مهمة؟
تقول الطبيبة النفسية كاتي ميلكمان، إن الدماغ البشرية عادةً ما يأنس إلى التعامل مع الحياة باعتبارها "حُقَباً"، تُعطي نهاية واحدة وبدء واحدة جديدة للمرء إحساساً بالانتعاش والرغبة في البدء من جديد والتفاؤل على إمكانية النهوض من تحت الرماد.
تقول ميلكمان إن بداية العام الجديد تمثّل مناسبة مثالية لهذا الشعور والذي يُمكّن المرء من الاعتقاد أنه يستطيع كتابة صفحة جديد من حياته يأمل فيها تحقيق كل ما لم يحققه سابقاً، وهو أمر لن يجرؤ على فِعله خلال منتصف العام مثلاً أو في ظِل عدم وقوع "حدث كبير" يقنعه أنه على وشك بداية جديدة.
وبحسب دراسة أجراها باحثون في جامعة بنسلفانيا عام 2014م، فإن بداية العام الجديد تمثّل مناسبة مهمة يُمكن للإنسان التفكير خلالها بشكلٍ أعمق واتخاذ قرارات حاسمة للإقلاع عن أخطاء العام الماضي.
في دراستهم تلك، اعتبر الباحثون أن ترتيب قرارات للسنة الجديدة هو أداة هامة لتحفيز الإرادة ومنح المرء الهمّة الكافية لتحقيق أهدافه خلال باقي أيام العام الجديد.
وتذكّر أنها ليست مهمة سهلة أبداً، فبحسب استطلاع نُشر عام 2019م فإن 80% من البشر فشلوا في تنفيذ هذه المهمة، بل إن بعضهم تخلّى عن تحقيق أحلام الجديد بدءاً من شهر فبراير! بينما في دراسة إنجليزية أُجريت عام 2017م بلغت نسبة مَن حققوا خططهم 9.2% فقط.
هذه الصعوبات يُمكن فهمها، إذا علمنا أن استمرار تنفيذ القرار أمرٌ ليس بالهيِّن أبداً. وبحسب جون نوركروس، أستاذ علم النفس بجامعة سكرانتون، فإن الإنسان يحتاج إلى الثشبُّث بقراره على الأقل لـ3 أشهر، حتى يستطيع تحويله إلى عادة سهلة المراس خلال الـ3 أشهر التالية.
إذن أنتَ بحاجة إلى امتلاك قوة كافية للتمسُّك بقرارك نصف العام بأسره حتى تستطيع بعدها الاستمرار في تنفيذه بشكلٍ آلي بقية هذا العام وباقي الأعوام اللاحقة وإلا انضمتت لقوافل الخاسرين والـ"9.2%".
كيف نقوم بها بشكلٍ مثالي؟
في مقالها بصحيفة "سيدني مورنينغ هيرالد"، قدّمت الكاتبة الصحفية جيسيكا إيرفين 4 نصائح لكيفية اتخاذ قرارات السنة الجديدة، وهي:
1- لا تتأخر، ابدأ في بحث آليات تنفيذ القرارات خلال أيام قليلة من بداية العام.
2- لا تضع الكثير من القرارات معاً، فقط انتقِ عدداً ضئيلاً منها لا يزيد عن 4 أمنيات تبتغي تحقيقها كل عام.
3- احرص على أن تكون قراراتك قابلة للتحقيق والقياس، وأن تكون مصحوبة بجدول زمني. مثلاً لا تتمنّى "إنقاص وزنك" بشكلٍ مجرد، وإنما حدّد له وسيلة واضحة يُمكن قياسها كالذهاب لصالة الألعاب الرياضية عدداً محدداً من المرات أو الالتزام بتناول وجبة صحية ولو مرة واحد أسبوعياً.
4- أخبر العالم بما تفعله ليكون حافزاً لك وللآخرين على أن أهداف ما قبل العام ليست مستحيلة التنفيذ كما قد يعتقد البعض.
وفي هذا المقال استشهد جون ماي، أستاذ الطب النفسي في جامعة بليموث، بأن نجاح المسلمين في صيام شهر رمضان مهما طال عليهم النهار وازدادت حرارته، هذا النجاح يؤكد أن دور الدعم المجتمعي للفرد في تحقيق هدفه هام جداً، بعدما سيُصبح إنجاز الأهداف هدفاً أسريّاً وليس فقط طموحاً شخصيّاً. وهو ما يعني أن انتقاءك لمناخ عام يُساعدك على تنفيذ قراراتك -ويشاركك فيها إن أمكن- أهم من القرارات نفسها.
وبخلاف هذه النصائح الأربع المميزة، يُمكننا إضافة إلى هذه الإرشادات نصيحتين أخريين، هما:
1- اتّخذ شريكاً لا يكفُّ عن الصراخ في أذنيك كلما توقفت، ويُشعرك بقدرٍ من الغيرة كلما أنجز بعض أهدافه.
2- كافئ نفسك كلما أنجزت، ولو بشقِّ تمرة.
أما عن طبيعة الأهداف نفسها فالأمر متغيّر من إنسانٍ لآخر بالطبع، لكن في أغلب الأحوال فإن الطبيعة المتفائلة لهذا اليوم تسمو بالإنسان عن المطالب المادية لما هو أسمى وأعمق ويرتبط بجودة الحياة نفسها وليست أمارات الترف وحسب، ففي أغلب الأحيان سندّخر هذه المناسبة العظيمة لتمنّي السعادة وليس المال، الزوجة الصالحة وليست السيارة الفارهة إلخ إلخ.
وبحسب استطلاع رأي أجري منذ عدة أيام حول القرارات التي يعتزم الأمريكيون اتّخاذها عام 2022م، ابتعد 71% منهم على الطموحات المالية وأكدوا أن الأولوية ستكون على تعلُّم المهارات الحياتية وقضاء المزيد من الوقت مع أسرهم.
وهو ذات ما يعتزم عليه بريطانيون شاركوا في استطلاع آخر منذ أيام أكد خلاله 4 من كل 10 أن قراراتهم في العام المقبل ستتعلّق بتحسين الصحة وممارسة المزيد من الهوايات.
ما يؤكد أنه بالرغم من إصرار الباحثين على أن روح العلمانية قد تمكّنت من مناسبة عيدالميلاد بكل مشتملاتها الاحتفالية والاحتفاية، وعلى رأسها أمنيات العام الجديد، فإن لتوق الإنسان لأصول الحياة بعض بقايا ترفض الاستسلام لعالمنا الرأسمالي/ الاستهلاكي وتحلم بالسعي لإنعاش علاقاتها الأسرية وتظفر بشيءٍ من المتعة الخالصة قبل أن يُدمِّر ما تبقى منها ركضنا المتواصل في دروب السعي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.