هناك مَن يستغرب مِن مناقشة بعض الفتاوى الاجتهادية، ويستنكر إعادة دراستها، وطرح أدلة قوية وتساؤلات حولها، ويسأل بتهكم: "من أنتِ حتى تناقشي وتسألي وتراجعي؟"
أولاً:
وأقول كمقدمة للموضوع "أنا تلك المرأة المعنية بتلك الفتاوى، والتي يوجبون عليَّ تطبيقها، وهم بعيدون عنها ولا يعلمون تفصيلاتها وملابساتها"، ولا بد إنْ عرفوها ودرسوها أن يغيروها، وأضرب الأمثلة لتوضيح الفكرة:
1- أنا تلك المرأة التي وَلدت 5 مرات، ومتأكدة تماماً أن نفاسها كان 70 يوماً في كل مرة… لكن:
عليها أن تعتبره يوماً 40 (وبحد أقصى 60 يوماً)، والسبب فتوى اجتهادية من رجال لم يعاينوا الحيض، ولم يجربوا الحمل، ولا يعرفون الولادة ولا النفاس، ولم يكن الطب قد وصل لما وصل له الآن، فكيف تصلي، وهي تعلم علم اليقين أن لون الدم وشكله وأعراضه دم "نفاس"، وبالتالي هي غير طاهرة؟
خاصة أنه مع تغيّر البيئة والزمن والطعام والأجواء تأثرت الهرمونات، واختلف جسم المرأة، ومع تطور الطب ظهرت معطيات مختلفة، تؤكد أن النفاس قد يطول للسبعين، وأكثر مدة سجلتها النساء حتى اليوم بالنفاس 80 يوماً، وهو ما يستدعي النظر بالفتوى وتعديلها.
2- أنا تلك المرأة التي أنجبت عشرة أولاد، وفي كل مرة كانوا يقولون لها "التسمية حق للأب وحده".
أفلا يحق لي بعد الوهن ومشقات الحمل والولادة أن أسمي طفلاً واحداً أو طفلين من العشرة؟
أو نتواضع على اسم يتقبله الطرفان ويحبانه؟ خاصة الابن البكر، الذي سوف أُسمَّى أنا باسمه مدى الحياة، وأُنادى: "يا أم فلان"؛ فمن السنة مناداة الإنسان بأحب أسمائه إليه.
3- أنا طالبة العلم الشرعي التي لم تفهم، ولم تجد من أساتذتها جواباً، حول أمور بدت متناقضة، منها هذه المسألة المهمة المتكررة:
حيث يُفْتون: "يَحْرُم إسقاط جنين عمره شهران، لأنه إنسان وروح، وله قلب يدق، ويُعتبر إسقاطه عمداً قتلَ نفس". ولكن حين سقط جنيني وحده بالأسبوع السادس (بعد أن تأكدت حياته وسمعتُ دقات قلبه)، ونزل عليَّ دم أفتوني: "يجب عليك اعتباره دم فساد، وتصومين وتصلين".
فكيف تقولون إن ما في بطني روح وإنسان لا يجوز إسقاطه، ثم عندما يسقط جنيني وينزل دم النفاس تأكيداً لأنها ولادة إنسان تتغير الفتوى، ويصبح ما سقط هو خلايا ليس فيها خلق إنسان، ولا نفاس علي.
ولنفرض جدلاً أنه ليس نفاساً، فعلامَ تعتبرونه دم فساد؟! ولا يكون الأقرب تفسيراً أنه "دم حيض".
فعلمياً الرحم تهيّأ للحمل، وحين لم يحدث (كما تقولون) نزف كما ينزف كل شهر.
ثانياً:
ونحن نراجع على الفقهاء لأنهم هم أنفسهم طالبوا بهذا، فقال مالك: "أنا بشر أخطئ وأصيب، انظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وما لم يوافق فاتركوه"، ومثله قال كثير من المفتين.
والفقهاء أنفسهم غيَّروا وبدَّلوا في فتاواهم حين ظهرت لهم أمور وأدلة، وذلك مفصّل في تاريخ ونشأة الفقه والشريعة، وعلى سبيل المثال: كُتب الشافعية تختلف في أمور كثيرة عن كتاب الأم، وكلما بعُد العهد يزداد التباين والاختلاف.
ولذلك رجع المعاصرون على الفقهاء الأربعة، وخالفوهم وقالوا: "إن مداواة وعلاج الزوجة من النفقة الواجبة"، رغم اتفاق المذاهب الأربعة على أنها ليست من النفقة.
ثالثاً:
وبالمناسبة الرجوع على الفقهاء لا يحتاج أحياناً لعلم وفقه، وتكفي الفطرة السليمة، والتجربة، والتقوى والورع، لتدرك النفس الصواب من الخطأ في بعض الأمور، فالشريعة تتوافق مع العدالة والرحمة والإنسانية.
فالمرأة التي راجعت عمر في المهور جعلته يرجع عن قوله، ولم يقل لها من أنتِ حتى ترجعي علي، وما درجتك العلمية وشهاداتك، وما تخصصك؟" وإنما تقبل النصيحة منها وأصلح فتواه.
وأعرف أن هناك من سيقول إن هذه الرواية مشكوك في صحتها، ولذلك أضرب مثلاً آخر بخولة بنت ثعلبة، التي قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد طلقت منه (والرسول: رسول ونبي ومُشَرِّع)، ورغم هذا لم تقتنع، وصارت تجادله، وتوضح له بكلام عاطفي واقعي منطقي أنها لم تطلق منه، ولا بد أن لها حكماً آخر، وبالفعل أنزل الله فيها قرآناً يتوافق مع فكرتها وحدسها، ومع مشاعرها، فهي الأعرف بظروفها، وبشدة وهول ما وقع عليها.
رابعاً:
هذا السؤال: "من أنتَِ؟" بات يُوجّه اليوم لكل شخصية -رجلاً كان أو امرأة- حين تطلع على الناس بفتوى لا يعرفونها (ولو كانت الفتوى صحيحة ومؤصلة)، فالسؤال يوجه غالباً من العوام والجهلة، فيعترضون لأنهم يظنونها فتوى دخيلة وخاطئة.
وبسبب قلة علمهم وغيرتهم بلا بصيرة على الدين، يُسفّهون من نقلها لهم، ويعتبرونه مؤلفاً لها، أو "خباصاً!" مع أنه يمكنهم بسهولة اكتشاف صحتها من عدمها، فالإنترنت مليء بأُمّات الكتب المصورة والمحفوظة بدقة، كما أن فيه مواقع إلكترونية موثوقة.
ومما يجعلهم يتنمرون أكثر وأكثر أنهم يتذكرون كَمْ خَوَّفَهم الوعاظ والمشايخ من الإفتاء، حتى خلطوا الأمر عليهم، فصاروا يظنون أن "نقل فتاوى الفقهاء" اجتهاد.
أقصد جعلوهم يظنون أن مجرد نقل المعلومة والفتوى الصحيحة لمن يحتاجها هو من التجرؤ على الفتوى، ومن الاجتهاد المحرم والممنوع، ولا يمارسه إلا الفقيه المتمرس، وهذا خطأ، ويخالف الشرع الإسلامي، الذي حثَّ كل إنسان "تعلَّم مسألة وحذقها" أن يبلغها للآخرين: "بلِّغوا عنِّي ولو آية"، حتى لا يكون آثما لأنه كتم علماً يُنتفع به.
خامساً:
يقولون لنا الفتوى لا تؤخذ إلا من متخصص، ولكن عند البحث نكتشف شيئاً مثيراً:
* فحين نتابع الذين اشتهروا وصاروا يتكلمون بالدين، ويتصدرون للفتوى، نرى بعضهم يختار الأقوال المتشددة ويقولها للناس، وكأنها الرأي الوحيد الذي لا خلاف فيه، ويبالغ بالعُسر والتحريم، ويكتم اليُسر والتحليل.
* ثم حين نرجع لسيرهم الذاتية نجد كثيراً منهم متخصصين بالطب، أو الفيزياء، أو السياسة، أو الاقتصاد… ولكن الفتوى حلال عليهم، لأنهم يحرصون على التزمت والتشدد.
* في حين لو جاء العلامة والمتخصص والمجتهد (كالقرضاوي والددو…) بفتوى لم يألفوها أو تخالف عاداتهم قاموا عليه!
إذن القضية ليست تخصصاً كما يدَّعون، وإنما هي: "ماذا تقول؟"، و"إياك والذي لا نعرفه، ولو كان مدعوماً بأدلة"، وبالتالي يحق لكل شخص مهما كان تخصصه ومهما كانت دراسته أن يتكلم بالدين، ما دام يختار ما يعرفه الناس وما ألِفوه من الفتاوى والآراء (ولو كانت خطأً أو مرجوحة).
سادساً:
وللأسف، بعض الذين يتصدرون للوعظ والفتوى يكون موقفهم من الفتاوى الموثوقة (غير المألوفة للعامة) بين حالين:
1- أشخاص يعرفون أن هذه الفتوى موجودة وصحيحة ومعتبرة، ولكنهم لا يريدون لها الانتشار، لِهوى في نفوسهم، وللمحافظة على مكاسبهم، فيتذرعون بأي شيء ويشرعنونه لمنعها.
2- أشخاص لا يعرفونها لأنهم درسوا جانباً من الشريعة، أو لأنهم مقلدون فيعتقدون أن إعادة النظر بالفتاوى، أو إبراز بعض الفتاوى المخفية باب للفساد.
سابعاً: قبل أن يُقال "من أنت حتى تفتي؟" نتأمل منكَِ التفريق بين المغرضين الذين يستنبطون أموراً تخالف الشرع، أو يخرجون بتأويلات بعيدة وبين الباحثين الجادين المتقين الذين لا يقولون برأيهم (كما يزعم بعضهم)، وإنما يتبعون ما قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى: "يؤخذ بفتاوى المخالفين الموثوقين"، أي لا يلتزمون بالمذاهب الأربعة وحدها، أو بالفتوى المعتمدة فيها، وإنما يستخرجون من أمهات الكتب فتاوى منسية، وأحكاماً شرعية تناسب العصر وتتوافق معه، وهي صحيحة ولها أدلة، وليست شاذة.
وقد يوفقهم الله ويستنبطون من النصوص الشرعية دليلاً غير مسبوق، يدعم ويوثق الفتوى أكثر وأكثر.
فهي فتاوى موجودة ومعروفة، وهم أبرزوها ووثّقوها، ولم يخترعوها، ولم يقولوا برأيهم، وهذه أهم فكرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.