ذهبت الانتخابات الليبية التي كان من المقرر إقامتها في 24 ديسمبر إلى غير رجعة، ذهبت ليبقى النظام البرلماني على ما هو عليه ويبقى الإعلان الدستوري بتعديله العاشر صامداً دون أن يتزحزح، ليبقى مجلس الدولة لعامه الحادي عشر وربما الثاني عشر والثالث عشر، وليبقى البرلمان لعامه التاسع والعاشر وربما لينافس البرلمان اللبناني في طول مدته يوماً ما.
حقيقة الأمر أن جدلية المترشحين للانتخابات الرئاسية هي من دقت إسفين فشل الانتخابات، زد عليها قانوناً صيغ على عجل، ولائحة طعون أُقِرت ثم عُدِّلت ثم أُلغي تعديلها، ومحاكم تحكم هنا وأخرى هناك، وشبكة من الطعون، وأداء ركيك من المفوضية، وضغوط على القضاء وتسبيب لأحكام الطعون يغرد خارج السرب، وشعب مقسم بين رغبته في الانتخابات ورفضه وبين مترشحين إما هم أو تُحرق البلد.
آخر مسمار في نعش الانتخابات دُق بمشاركة رئيس حكومة الوحدة الوطنية في الانتخابات، والذي تعهد في اتفاق جنيف بعدم الترشح للانتخابات القادمة لكنه غَيَّر رأيه في آخر الأيام ليعلن أنه سيشارك في الانتخابات، معشوق الجماهير – حتى حين – رئيس الوزراء الدبيبة رأى خصومه أنه خالف خارطة الطريق، وأنه مطلوب منه فقط إيصال البلد لانتخابات وليس المشاركة فيها، وهذا ما لم يحدث حتى ضاع الجمل بما حمل.
فكرة التعهد واستغلال موارد الدولة لا يمكن النظر إليها بعين الدولة المستقرة، مثلاً كفترة أولى لترامب وترشحه لأخرى، أو كما يفعل ماكرون الآن وهو يستعد لخوض الانتخابات مجدداً وهو رئيس للجمهورية الفرنسية، الفكرة أن المادة كانت واضحة وصريحة وكان يمكن لمن يجد فيها حرجاً أو عدم قبول أن يتنحى جانباً من انتخابات جنيف في ملتقى الحوار السياسي الليبي (فبراير 2021) ليشارك في انتخابات ديسمبر 2021، ولكن هيهات هيهات فلا أحد يترك السلطة بسهولة.
حكومات تعهدت بإجراء انتخابات دون المشاركة بها وأوفت بتعهدها
تجارب عدة مشابهة حدثت في أقطار عربية بعد انسداد سياسي، وبصرف النظر عن حالة تلك الدول إلا أن الالتزام بخارطة الطريق هو ما جعل الأطراف تضع أسلحتها جانباً وترتضي الحل أملاً منها بمشاركة وتمثيل سياسي وفق قواعد اللعبة الجديدة، مثلاً في لبنان عام 2005 وعقب انسداد سياسي بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وفشل في مسار الانتخابات كُلف نجيب ميقاتي – وهو بالمصادفة رئيس الوزراء اللبناني الحالي – برئاسة الوزراء في لبنان لغرض إيصال البلد إلى انتخابات برلمانية عام 2005 وتعهد بألا يشارك فيها والتزم بعهده وعاد للساحة البرلمانية في 2009 محترماً كل تعهداته السابقة وواضعاً مصلحة لبنان فوق مصلحته أو مصلحة حزبه أو حتى مصلحة ناخبيه.
كذلك وبعد فوضى عارمة اعترت العراق سُميت بتظاهرات تشرين 2019، واحتجاجات في ربوع العراق مطالبةً بإصلاح الوضع السياسي كُلفت حكومة مصطفى الكاظمي خلفاً لحكومة عادل عبدالمهدي بتولي شؤون البلاد وتهيئة الأرضية لانتخابات برلمانية في العراق 2021، تعهد فيها الكاظمي بعدم المشاركة، مؤكداً أن حكومته ستكون جاهزة لحماية العملية الانتخابية برمتها، وأكد للقوى السياسية التزامه بتعهداته أمام الشعب.
وأعلن “تيار المرحلة” و”الازدهار”، الحزبان المقربان لرئيس الوزراء العراقي، في وقت سابق، انسحاب الكاظمي رسمياً من الانتخابات المبكرة، وعدم مشاركة أعضاء فريقه وجميع التيارات المقربة منه والتعهد بعدم دعم أي حزب أو مرشح سياسي على حساب حزب آخر.
بصرف النظر عن ما تسير إليه دولتا لبنان والعراق ولكننا يجب أن نقتنع أن ليبيا أيضاً قد تسير نحو موضعها وبتسارع شديد، فنسف الانتخابات يعني التمديد والتمديد وفتح الباب على مصراعيه للصراع ما بين الحالي والقادم وما بين الرغبة في الاستقرار والبحث عن التغيير.