شهد العالم خلال القرن الأخير مقتل عشرات ملايين المدنيين في عمليات قتل جماعي، ما جعل الباحثين يهتمون بدراسة هذه الظاهرة، بهدف استشراف أسبابها وإيجاد آليات تساعد على الحد منها. وبرزت ثلاث مقاربات تفسيرية تدور حول: الانقسامات المجتمعية العميقة، وتركز السلطة في يد أنظمة غير ديمقراطية، والفترات التي تتعرض خلالها الدول لأزمات وطنية مثلما يحدث خلال الثورات وأثناء الحروب.
أولاً: المجتمع التعددي: تعزو هذه المقاربة عمليات القتل الجماعي إلى الانقسامات المجتمعية التي ربما تحدث على خلفية عوامل عرقية أو ثقافية أو دينية وما شابه، حيث تؤدي الانقسامات إلى تعزيز حالة الاستقطاب المجتمعي، مثلما حدث في البلقان بين الصرب والكروات والمسلمين، فتزيد احتمالية حدوث صراعات بين المجموعات المختلفة أو اندلاع تمردات من طرف المجموعات المضطهدة، ما يُعزز نظرة "نحن" و"هم"، التي تُسهم في شيطنة الآخرين وتجريدهم من إنسانيتهم، ومن ثم تدفع إلى ارتكاب عمليات قتل موسعة بحقهم.
ثانياً: الأزمات الوطنية: تجادل هذه المقاربة بأن عمليات القتل الجماعي تحدث في أجواء الحروب والثورات، وما يواكبها من كساد اقتصادي وأزمات وطنية، حيث تلجأ الأغلبية إلى إلقاء اللوم على الأقليات وفق نظرية كبش الفداء، وترى في الأقلية سبباً للمشاكل والإحباطات، ومن ثم تشرع الأغلبية في تنفيذ عمليات قتل جماعي بحق الأقلية. وفي أحيان أخرى ترى بعض المجموعات في الأزمات العامة فرصة سياسية للقضاء على المجموعات المنافسة، فتوظف الأزمات للتخلص منها عبر عمليات القتل الجماعي.
ثالثاً: شكل نظام الحكم: يذهب هذا التفسير إلى أن عمليات القتل الجماعي ترتبط بشكل نظام الحكم، وبالأخص الأنظمة غير الديمقراطية، في حين يندر بأن تقتل الأنظمة الديمقراطية مواطنيها، لكنها قد تمارس القتل الجماعي أثناء الحروب في الخارج، مثلما فعلت فرنسا في الجزائر، والهند والصين، وأمريكا في قصف اليابان بقنابل ذرية. أو قد تمارسه الديمقراطيات محلياً ضد من لا تعتبرهم مواطنين، مثلما فعلت الولايات المتحدة مع السكان الأصليين لأمريكا.
تفسيرات بديلة
رغم شيوع تلك التفسيرات حول دوافع ارتكاب مجازر قتل جماعي فإنها تعرضت لانتقادات، من أبرزها ما طرحه الأكاديمي الأمريكي "براندون فالنتينو"، في رسالته للدكتوراه، التي نشرها لاحقاً في كتاب بعنوان (الحلول النهائية: القتل الجماعي والإبادة الجماعية في القرن العشرين).
استخدم فالنتينو تعريفاً لمصطلح "القتل الجماعي"، يحدده بأنه القتل العمد لعدد كبير من أعضاء أي مجموعة بشرية من غير المقاتلين، وذلك بهدف التمييز بين أعمال القتل الجماعي والوفيات العرضية، التي قد تحدث على خلفية انتشار الأمراض خلال الحروب أو الوفاة بنيران عشوائية بشكل غير متعمد خلال القتال. كما استخدم فالنتينو معياراً عددياً وزمنياً لعدد الضحايا، وهو مقتل ما لا يقل عن 50 ألف شخص بطريقة متعمدة على مدار خمس سنوات.
جادل فالنتينو بأن الدافع الأبرز لحدوث عمليات قتل جماعي لا يرتبط بالهياكل الاجتماعية السياسية، إنما يتعلق بالأهداف والاستراتيجيات التي يتبناها قادة الدولة، حيث يرتكبون مجازر قتل جماعي وفق حسابات استراتيجية عقلانية، مجردة من الدوافع العاطفية، بهدف تحقيق أهدافهم، ومواجهة التهديدات الأشد خطورة التي يواجهونها.
انتقد فالنتينو مقاربة المجتمع التعددي، قائلاً إنها تعجز عن توضيح أسباب عدم انخراط العديد من المجتمعات التي تشهد انقسامات عميقة في أعمال قتل جماعي، كما تعجز عن تفسير فترات الهدوء المطولة في تاريخ المجتمعات، التي شهدت في فترات من تاريخها عمليات قتل جماعي، ويخلص فالنتينو إلى أن الانقسامات الاجتماعية العميقة الموجودة مسبقاً ليست شرطاً ضرورياً ولا كافياً لحدوث القتل الجماعي.
كما انتقد فالنتينو مقاربة الأزمات الوطنية، قائلاً إن عمليات القتل الجماعي عادة ما تكون مدفوعة بمصالح بعض المجموعات، التي ترى في الأزمات فرصة سياسية للوصول إلى السلطة، ومن ثم ترتكب تلك المجموعات عمليات قتل جماعي، بهدف تحقيق أهدافها مثلما فعل البلاشفة خلال أحداث الحرب العالمية الأولى. وفي المحصلة يقول فالنتينو إن غالبية البلاد التي شهدت أزمات وطنية لم تشهد عمليات قتل جماعي، ما يحد من القدرة على اعتمادها كعلامة للتنبؤ بحدوث عمليات قتل جماعي.
وأيضاً انتقد فالنتينو مقاربة شكل نظام الحكم، قائلاً إنها توفر قدرة محدودة على التنبؤ بموعد حدوث عمليات القتل الجماعي. فالعديد من الأنظمة غير الديمقراطية لا ترتكب عمليات قتل جماعي، إنما ترتكب ذلك في ظل ظروف معينة لا بد من فهمها وتحديدها.
تفسير فالنتينو لدوافع القتل الجماعي
قدم فالنتينو تفسيراً لدوافع ارتكاب القتل الجماعي، يركز على دور القيادة السياسية والعسكرية، حيث يميل القادة لاستخدام القتل الجماعي في حال تقديرهم أن بعض المجموعات العرقية أو الدينية أو السياسية تمثل عائقاً أمام تحقيق أهدافهم الأكثر راديكالية، من قبيل إحداث تحولات ديموغرافية أو اقتصادية واجتماعية جذرية في بنية المجتمع، ما يدفعهم لارتكاب قتل جماعي بحق تلك المجموعات بذريعة التطهير، أو تحقيق مصالح الأمن القومي، لدفع تلك المجموعات إلى مغادرة الدولة أو التخفي وربما بهدف إبادتهم.
كذلك بحسب فالنتينو، يرتكب القادة القتل الجماعي في مواجهة التهديدات الخطيرة، ولحل المشكلات عندما تعجز الخيارات العسكرية الأخرى عن تحقيق النصر، فيُستهدف المدنيون في الحروب للضغط على الخصم، وكسر إرادته أو لدفع جمهور العدو للانتفاض ضده، والمطالبة بالاستسلام أو لتدمير القدرات الاقتصادية للعدو، مثلما حدث في القصف الاستراتيجي البريطاني والأمريكي للمدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، أو لحرمان الخصم في حروب العصابات من دعم السكان، عبر تهجيرهم هرباً من القتل، أو لردعهم عن تقديم مساعدات للمقاتلين.
ويؤكد فالنتينو على أن القادة يلجأون للقتل الجماعي، وفق حسابات عقلانية ترجح أن مخاطر وتداعيات فعل ذلك محدودة أو أنه لا يمكن تحقيق الأهداف المرجوة سوى بهذه الطريقة. ويقلل فالنتينو من دور الجماهير والمجتمع في تنفيذ عمليات القتل، قائلاً إن القادة الذين يُمسكون بزمام السلطة لا يحتاجون لتنفيذ عمليات القتل الجماعي سوى إلى موافقة نسبة بسيطة من الجمهور، أو بمعنى أدق يحتاجون إلى سلبية المجتمع تجاه المجازر، بما يسمح لقلة من الأفراد المنظمين بارتكابها، وعادة ما يرتكب هؤلاء الأفراد المجازر بدوافع تدور حول تلبية الواجب الوطني أو الخوف من العقاب أو لتحقيق طموح وظيفي وكسب مادي.
نقد طرح فالنتينو
ركز فالنتينو على دور القادة في تنفيذ عمليات القتل الجماعي، وقلَّل من دور الانقسامات المجتمعية والعوامل الثقافية وأيديولوجيات الأفراد ومعتقداتهم، لكن دوافع تنفيذ عمليات القتل الجماعي متراكبة ومتداخلة، يصعب إعطاء الأولوية فيها لعامل واحد. كما أن العوامل الثقافية والدينية والأيديولوجية للبشر تلعب دوراً كبيراً في خياراتهم السياسية ونظرتهم للآخرين، وتعاملاتهم معهم. وتؤدي في العديد من الحالات لحدوث انشقاقات رأسية وأفقية في بنية النظام الحاكم، مثلما حدث في سوريا، عقب بدء نظام الأسد في تنفيذ مجازر جماعية ضد المتظاهرين، حيث انشق آلاف الضباط والجنود من المنتمين للطائفة السنية، بل وقاتلوا ضد النظام.
وبحسب فالنتينو يرتكب القادة عمليات القتل الجماعي في ظل حسابات استراتيجية عقلانية، بعيداً عن الدوافع النفسية والعاطفية، ويأمرون بتنفيذها في حال تقديرهم أن مخاطر وتداعيات فعلها محدودة، بينما نجد أمثلة تشوش على هذه الفرضية، فالقتل الجماعي الذي ارتكبه الصرب بحق البوسنيين، ثم سكان كوسوفو، أدى إلى توجيه تحذيرات بتدخل دولي، وهو ما لم يعبأ به القادة الصرب في ظل وجود اصطفاف شعبي داعم للتطهير العرقي، ومشارك به، ما أدى في النهاية إلى حدوث تدخل دولي ألحق خسائر جسيمة بالجيش الصربي، وأدى إلى تغيير القيادة الصربية، بل وإلقاء القبض على كبار القادة السياسيين والعسكريين الصرب.
وكذلك في حال وجود مؤسسات راسخة ومجتمع مدني قوي، سيصعب على القادة التلاعب بالجمهور، وتنفيذ عمليات قتل جماعي ضد الخصوم. إذ ستعمل المؤسسات على لجم جماح القائد المتهور، بل قد يثور المجتمع ضد القائد الذي يريد أن يورطه في حرب أهلية وعمليات قتل جماعي.
إن المقترحات التي تعزز من الهوية المشتركة مثل الخطابات الدينية المتسامحة في المجتمعات المتنوعة عرقياً يمكن أن تساهم في تعزيز التسامح. كما أن نبذ خطابات الإقصاء وحظر الأحزاب العنصرية أمور ستلعب دوراً مهماً في تقويض النزوع نحو إبادة المجموعات الأخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.