نهى الله تعالى عن الإعجاب بأي شيء، أو المن فيه، حتى العمل الصالح: "وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ" (المدثر:6)؛ أي لا تمنن بعملك على ربك تستكثره، لأنه باب خطير قد يؤدي بصاحبه إلى الكبر.
"لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يُكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم"، (الترمذي).
إن الكبر خلق مذموم نهى الإسلام عنه: "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ"، (النحل:23)، وتوعّد عليه: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، (مسلم).
وتتتابع النصوص منبهة ومحذرة المؤمنين من الإصابة بداء الكبر: "إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال إنه عالم فهو جاهل، ومن قال إنه في الجنة فهو في النار"، وقيل لعائشة: "متى يكون الرجل مسيئاً؟ قالت: إنْ ظنّ أنه محسن".
لن أتكلم اليوم عن الكبر المعروف، الذي يتكبر فيه الإنسان بأمور الدنيا (كالحسب والنسب والجمال والغنى…)، فهذا مألوف وكلنا نعلم بشاعته وضرره، وإنما أريد الكلام عن كبر لا يتفطن له كثيرون لأنه خفي! ولأنه يبدو فيما يبدو أنه أمر جيد ومحبذ، ويظن صاحبه أنه على خير… لكنه أخطر من الأول، لأنه يكون بالتنافس على الآخرة وعلى الأفضلية عند الله سبحانه وتعالى، فظاهره تدين وحرص، وبالحقيقة هو "كبر" قد يحبط العمل، ويؤدي لليأس والإحباط، ويفسد العلاقات، خاصة إذا ترافق بنقد واستهزاء لأعمال وأفكار الآخرين.
واخترت الكلام عن هذا النوع من الكبر لأنه بات سمة لبعض الوعاظ أو المشهورين، أو لمن نعيش معهم ونحتكّ به من المعارف والأقرباء، ولقد كان أول من كشفه وكتب عنه "الغزالي" في كتابه "إحياء علوم الدين": "استعظام النفس ورؤية قدرها ومرتبتها فوق قدر ومراتب الغير في صفات الكمال الديني… والموجب له إعجاب المرء بنفسه أو بعلمه أو بعمله… وآفة الكبر عظيمة، وفيها يهلك الخواص، وقلما ينفك عنها العباد والزهاد والعلماء… واعلمْ أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه".
وهذا هو النوع الذي أريد أن أركز عليه من "الكبر"، وألفت الأنظار إليه، هو ذلك الكبر الذي يَستعظم المرء فيه عملَه وطاعتَه، ويزن ما يقدمه من ذلك إلى ما يقدمه سواه من العباد، فيجد في عمله على أعمالهم زيادة، ويشعر بأن خشيته لله أكبر، وطاعته للرحمن أفضل، فيصعّر خده ويتعالى بمركزه، واليوم ومع وسائل التواصل، بات بعضهم يستقل أعمال الآخرين على الملأ، ويستخدم أسلوب السخرية والاستهزاء على صفحته لينفر من أمثال هؤلاء، وقد يغالي فيصفهم بالمنافقين، أو لهم أجندات، كل ذلك لأنه رأى منهم تيسيراً ببعض الأمور المختلف عليها، أو لأنهم خالفوا ما ألزم به نفسه به من تشدد وتزمت.
ولا أكتب خيالاً ولا حالات محددة وخاصة، بل أصف سلوكاً أصبح شائعاً ومؤذياً:
(1) يكون في المجتمعات الصغيرة المغلقة.
(2) ويكون في المجتمع الكبير، وللأسف يصدر من أناس لهم جمهور على وسائل التواصل، ولهم تأثير في عائلاتهم (من الوعاظ والمشهورين، ومن المعلمات في المدارس والجامعات، ومن الأهل والأقرباء)؛ وصفته أن الأخ أو الأخت -يتكبران- إعجاباً بعمله وعبادتها وفضله وفضلها عند الله (فتتكبر مثلاً: لأنها كسبت ثقة الناس وأصبحت شيخة ومرجعاً ولها مريدون، أو لأنها تستر يديها بقفازين، ويتكبر لأن له كتباً أصبحت منهجاً لبعض الجامعات، أو لأنه يصوم كل اثنين وخميس، ويعفي لحيته…).
وسميته كبرٌ غريب؛ لأنه يصدر من إخوة وأخوات مؤمنين ومؤمنات فاضلين وفاضلات، لا يُشك بأخلاقهن واستقامتهن، ويكون ضد إخوة وأخوات مسلمين ومسلمات لا يُشك بالتزامهم أو التزامهن! فكيف يكون ذلك؟ وكيف يقع أخ فاضل، وتقع أخت مؤمنة تقية ورعة في مثل هذا المنزلق، وتنسى أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله، وإنما برحمة الله: "لن يُدخل أحداً منكم عملُه الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، (البخاري ومسلم).
وكيف ينسى أخ مسلم، وتنسى أخت مسلمة طبيعة العبادة في الإسلام وأنها مبنية على الستر، فتكون بين العبد وربه، ومِن الذين يظلهم الله بظله يوم لاظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله ماذا أنفقت يمينه، وممّا روي عن الحسن البصري قوله: "ولقد أدركْنا أقواماً ما كان على الأرض مِن عملٍ يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً". فكيف تعرف فضل عملها وهي لم تر كامل أعمال غيرها؟!
وكيف يسهو أخ مسلم، وتسهو أخت مسلمة عن بعض النصوص التي تؤكد أن الأفضل عند الله هو الأتقى؟ الذي يخشى ربه في الغيب ويتقي إيذاء عباده، ففي سورة النساء: "إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أتْقَاكُم"، ومكان التقوى هو القلب، لذلك لا تظهر لنا في كثير من الأحيان، ولا يطلع عليها إلا الله، ففي الحديث الذي رواه مسلم: "التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات"، وفي صحيح البخاري: "إن مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأبرّه"، وفي صحيح مسلم: "رُب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه". إذن نحن ليس لنا إلا الظاهر، فكيف نعرف من الأتقى والأفضل؟ وكيف نعرف من الصادق ومن الفاجر، والله استأثر بمعرفة القلوب والبواطن؟
ثم إن الميزان -الذي يزن به الله تعالى الأعمال- مختلف كثيراً عن الميزان الذي نزن به نحن أعمالنا، فميزان البشر يحصي بعض الأعمال -لا كل الأعمال- وقد يُعظّم بعضها وهي في ميزان الله حقيرة، ويحقر بعضها وهي عند الله عظيمة: "كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة"، فطلع رجل من الأنصار، تنطف لحيته من وضوئه، قد علّق نعليه بيده الشمال.
فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى. فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمر -تبع الرجل- فقال إني لاحيت أبي، فأقسمت ألّا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت؟ قال: نعم… فكان عبد الله يحدّث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارّ (تقلّب في فراشه) ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله يقول لك (ثلاث مرات): يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبيرَ عملٍ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟ قال ما هو إلا ما رأيت. قال عبد الله: فلما وليتُ دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيتَ غير أنَّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك".
فلا تحقرن من المعروف شيئاً، ولا تنظروا لظاهر الأعمال، ولا تعتبروا التأثير والشهرة دليلاً أكيداً على رضا الله عنكم أو عن أحدكم، وأنها "كرامة المؤمن"، فإن ميزان الله -عزّ وجلّ- يختلف عن ميزان العباد في تقويم العبادات والطاعات والأعمال؛ فلعلها بلاء لصاحبها، وقد يسقط فيه ويحبط عمله، وإن النوايا تتبدل، والقلوب تتحوّل، فلا يغترَّ امرؤٌ بعمله ويتألّى على الله بالحكم على الآخرين و"فرزهم" إلى الجنة أو النار، أو إلى أدنى أهل الجنة أو أعلاهم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، (البخاري ومسلم). ونسأل الله السلامة والقبول.
والخلاصة:
لا تحكموا على الناس من صورتهم على بروفايلهم، ولا على تساهلهم ببعض الأمور المختلف عليها، ولا تجعلوا من أنفسكم قضاة، ومصنفين، ولا تشجعوا الذين يستعملون صفحاتهم على وسائل التواصل للسخرية من أعمال الآخرين، من إنتاجهم، ومن أفكارهم (ما لم يكن كفراً أو أمراً محرماً حقاً)، فهذا تألّ على الله، وهو ذنب عظيم، ومن الكبائر، لأن فيه كبراً، وفيه سخرية واستهزاء.
واعلموا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحاسب الناس، ونحن علينا إحسان الظن، أو التعامل بحذر، مع الرفق والمرحمة، وأن نتواضع لله ليرفعنا ويُنير بصيرتنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.