لكل قصة قارئ، ولكل قصة حقيقية أكثر من جانب. لا يمكننا معرفة ما حدث في الماضي إلا من خلال قراءة ما كُتب عنه.
وما حدث في بداية شهر أغسطس/آب عام 1990 حينما احتلت العراق الكويت، سيُلهم ابنة الكويت الكاتبة "بثينة العيسى" لكتابة رواية عن الحرب والحب والخيانة.
تقول بثينة العيسى:
"الكتابة هي صناعة للجرح وليست للتعافي من الجرح للضرورة".
من هذا التعريف ستنطلق بثينة في "السندباد الأعمی" لفتح الجراح التي لم تلتئم في جبين وصدر وطنها، لتُعري الحقيقة وتفتح صندوق باندورا الذي ستخرج منه الصور التي كانت حية وحقيقية أمام أعين الطفلة التي تم اجتياح وطنها.
في الوقت الذي اقتحمت فيه العراق دولة الكويت كانت بثينة تشاهد التلفاز مع أبناء وبنات خالاتها. لم تكن مفردات مثل اجتياح، حرب، احتلال، دبابة، رشاش، وغيرها من الكلمات التي صارت دخيلة على قاموس أهلها تُشكل أي شيء لها؛ لذلك غيرت محطة التلفاز الأولى التي سيطرت عليها العراق لتُشاهد في المحطة الثانية المسلسلات والأفلام الكرتونية، وللمفارقة ستُعرض حلقات "مغامرات السندباد"، الذي ورغم أن كل الأطفال في كل الدول العربية يحبونه ستجتمع أسرتها لتُخبر كل أطفال العائلة أن هذا السندباد من بغداد، بلد المحتل وأن مشاهدته بمثابة خيانة للوطن، وستدخل كلمة "خيانة" مع مفردات أخرى في قاموس بثينة التي ستكبر وتقرر كتابة الرواية التي لم تكتبها بطلتها.
السندباد الأعمى
يحمل النصف الأول من عنوان "السندباد الأعمی" اسم أسطورة شعبية مشتركة في الموروث الشعبي العربي، فيما يحمل الشق الثاني من الاسم صفته. اختيار بثينة لعنوان محايد يفتح الباب لعدة تأويلات. ومن الفصل صفر، والعنوان المراوغ الذي يحمل اسم "المارد خارج القمقم" تُخبرنا "بثينة العيسى" أننا على أعتاب نص يكسر عدة تابوهات؛ نص يتشابك مع ذكری كابوسية في تاريخ الوطن، وذاكرة كل مواطن كويتي.
وبدءاً من هروب السجناء بعد اجتياح العراق للكويت ستبدأ بثينة في سرد الحكاية التي تُشكل جرحاً عميقاً في قلب الوطن وتاريخ الوطن، وقلب نواف الذي صار خالياً منذ ما حدث في الليلة المشؤومة.
"امتلأ قلبها بالثقل؛ كما لو أن داخلها قد امتلأ بأكياس الرمل".
ستتجاوز بثينة قدرة الراوية على معرفة كل شيء- رغم معرفتها- لتسير جنباً إلی جنبٍ مع الحكاية نفسها بلا تحيز، وستتجاوز الرواية نفسها كونها مجرد رواية، لتتعدد التصنيفات التي لن تتمكن من محاصرتها، ليُصبح النص نفسه فوق التأريخ، وفوق النظرة الأحادية لأي شيء، وفوق المُتخيل؛ ولأنه لا شيء ينتهي حقاً فإن الحكاية القديمة عن الحرب والاحتلال ما زالت قابلة لأن تروى بطريقة مختلفة، ومدهشة.
في نص غارق في محليته، تنبش بثينة في التاريخ، وتستخدم لغة مختلفة عن لغتها في أعمال عديدة سابقة، ونقع نحن في فخ حلاوة اللغة وطلاقتها لنُنهي عملاً تتجاوز صفحاته 300 صفحة لنجد أنفسنا أمام رواية تتبنی فكرة طرح الأسئلة بغزارة دون أن نحصل علی إجابة واحدة في عالم هو خليط بين الأسود والأبيض. عالم يقف في المنطقة الرمادية ولا يغير موقفه ويضع كل المذنبين وكل الضحايا علی مسافة واحدة من الشعور بالظلم أو الرغبة في البكاء.
"كانت مناير تشعر بالوحدة، وقد أصبحت شفافة بالكامل".
تستخدم بثينة في "السندباد الأعمى" استعارات وتشبيهات عديدة لوصف معاناة إنسان يقضم قلبه الشعور بالذنب لأنه غير كافٍ وغير مرئي. من هذه الجملة يمكننا الدخول إلی عالم مناير، الفتاة التي سترث حظ أمها العاثر في الرجال، وحظ أمها المعدوم في الحصول علی السعادة أو الشعور بالوجود الذي هو أعظم شعور يمكن أن يشعر به المرء.
ستُصاب مناير بلعنة ما، سترث التعاسة والتلاشي غير المكتمل من أمها، وستتحول لنسخة باهتة تماماً من امرأة لم تكتمل صورتها غير المرئية بشكل كامل لأنها ستموت حينما تُلامس جسد رجل آخر وتقع عيون زوجها عليها ويراها لأول مرة، ليس كامرأة تعيسة أو غير محبوبة؛ ولكن كامرأة خائنة.
محلية المشهد الروائي
بلا ثرثرة، أو جمل زائدة، وبلا حشو لإضفاء صفة ما علی النص، أو لخلق صورة استعراضية عن وطن لا نعمله كُلياً. تدخل "بثينة العيسی" من بوابة الحرب لتتشابك مع الصدمة التي سببها احتلال بلد عربي لبلد عربي. لترسم صورة حقيقية بعيداً عن المجازات أو البكائيات المستهلكة.
في "السندباد الأعمی" ككل، استخدمت بثينة ثنائية خطيرة في السرد الروائي، ببراعة ودقة كانت تخلق المشهد وتصفه، لا بعيونها هي، بل بعيون شخصياتها، وبخبرات الراوية، وبعيون المواطنة الكويتية سردت ما يحدث للوطن حينما يتم دكّه فجأة.
كتبت بثينة كل مشهد عن كل مكان لا نعرفه ببراعة لتُجسّده، وكتبت عن كل شخصية بوضوح كبير جعلنا نشعر وكأنهم أمامنا، ولكنها رغم ذلك اختزلت في الحديث عن "مناير" بالرغم من أن الحكاية كلها حكاية "مناير"، ولكن بالرغم من ذلك كان الاختزال مرادفاً للمشهدية، وساهم في خلق نفس الوضوح الذي يسببه وصف الشكل والمكان، ليمنحنا رؤية واضحة عن فتاة كانت مشكلتها في الأساس أنها غير مرئية.
كيف تحكي الحكاية
قبل أن يقتل الرجل زوجته كانت مناير طفلة سعيدة تجمع القواقع وتحفظ أسماءها، تتلذذ بلعبة القرش التي يمارسها عامر صديق والدها معها، عامر الذي ستعرف فيما بعد أن الحكاية بدأت وانتهت من خلاله، ليس حكاية اختفائها وانعدام رؤيتها، ولكن حكاية ولادتها لتكون ابنة نواف رغم شعوره بالاستحقاق بأنها من المفترض أن تكون ابنته هو، لأنه لو حدث هذا كانت ستعيش مع أمها سعيدة ولم يكن سيتسلل ذلك الشعور القاتل بعدم الوجود الذي سيغتالها.
هنا صوت الخيانة التي ستدفع والدها لارتكاب جريمة شرف كالتي نسمع عنها يومياً في مجتمعنا العربي، الجريمة التي ربما لا يجب أن تكون غير كاملة، والتي قد يتسبب في حدوثها مجرد نظرة أو إيماءة رأس أو حتی قبلة غير بريئة تودي بحياة المرأة إلی الجحيم بتهمة العُهر، وقد تدفع الرجل إلی السجن لسنتين أو ثلاث، ليس بسبب القتل، بل ربما لأنه سرق حياة كان من المفترض لملاك الروح أن يسرقها!
في الموروث الشعبي العربي يلتبس مفهوم الشرف علی الجميع، يراه كل رجال السلطة الذين خاطوا القوانين محصوراً في جسد المرأة الذي تنتقل ملكيته من الأب أو الأخ إلی الزوج ومن ثم الأبناء الذكور، ليكون مجرد ملكية للذكر، ولتتحول الأنثی لجسد مادي تابع في كل انفعالاته وحركاته لما يُملی عليه من السلطة المجتمعية الذكورية.
رغم محلية الرواية وكلاسيكية قصتها التي تحمل عدة تأويلات ما بين التأريخ وبين جرائم الشرف أو انغلاق المجتمع الكويتي إلا أن حدوثها في أي مكان غير مستحيل وخصوصاً في القطر العربي ككل بالنسبة لمجتمع عانی في تاريخه القديم والحديث من الاحتلال والحرب والتخوين، في مجتمع لم يتطور بشكل كافٍ ليضع الرجل في نفس منزلة المرأة أمام القانون أو أمام نفسه ما زال يضع المرأة في مكانة قليلة جداً ويُلخص كل تجاربها الحياتية في جسدها الذي لا يمكن أن يحتمل أكثر مما يستحق كجسد بشري عادي لا يمكن أن يُقتل ويُنتهك بدافع الاستحقاق أو الثأر.
تاريخ طويل من القهر
في "السندباد الأعمی" تشعر بالتخبط، بالشعور الثقيل الذي تُحدثه الكتابة عن الندوب الداخلية التي تنشأ في الطفولة لتكبر معنا، لتتمدد- عكس الجروح الخارجية- مع مرور الزمن لتصبح مؤلمة أكثر، عصية علی الشفاء وعصية أكثر علی التجاهل.
في البداية تُصاب "نادية" إحدی بطلات الرواية بالتهميش والتجاهل، ولعشر سنوات يتعمد فيها الرجل الذي سيتحول من حبيب إلی صديق زوج وعم طفلة وحيدة تُسمی "مناير" علی رؤية المرأة بلا أي تفاعل، بلا حب أو كره في محاولة بائسة لدحض شعوره في الزواج منها وبناء أسرة كبيرة معها بسبب اختلاف المذاهب الدينية. ستتم خيانة نادية ولكن لن يحدث أي شيء جلل، لن يعتذر زوجها ولن يكفر عن ذنبه، في مقابل عناق واحد بعد 10 سنوات للرجل الذي أحبته، ستتحول نادية لجثة تطفو علی البحر الأزرق.
لتنتقل دفة الحكاية والصوت الأنثوي المكلوم من الأم للابنة التي سيحاسبها الجميع علی ذنب لم تقترفه، ولتقع في نفس دوامة المشاعر العنيفة والتي سيكون أهونها الوحدة لتدخل الرواية من مدخل التأريخ لنفق التسجيل، ومن واقع الاحتلال للخيال، والسؤال عن ما قد يحدث داخل البيت الذي تعيش فيها طفلة غير مرغوب في وجودها!
سيظل الشعور بالتجاهل يكبر بداخل الطفلة التي لن تعرف أين ذهبت والدتها وهي في عمر 8 سنوات إلا بعد أن يتضاعف عمرها ليصير 16 سنة، لتفهم أن الشخص غير المرغوب فيه ليس هي، بل ذكری أمها وأثرها الذي لا تعد مناير إلا امتداداً له.
ولأن امتداد المرأتين لبعضهما البعض يشبه العلاقة بين التابع والمتبوع، ستتزوج مناير من رجل لن يحبها كما تريد ولكن كما يحتاج، سيخونها ويجعلها غير مرئية ويُهمشها، وستُنجب طفلة لن تراها لتُعمّق جرحها وتطعنها بنفس الشعور الذي طالما حاربته، وهو التجاهل التام. لتكبر وتزداد الهوة العميقة في صدرها كحفرة من الرمل كلما ازدادت سنوات عمرها زاد اتساعها، وكلما تجاهلها الآخرون ستستمر كراهيتها لنفسها في أكلها كما حدث مع أمها التي أحبت رجلاً واحداً وتفنن في تجاهلها لمدة 10 سنوات.
ميراث الأسر المفككة
لم تتوقف الكاتبة الكويتية عن التلاحم مع القضايا الإنسانية في عملها، ومن منطلق سؤال من هو الإنسان وما هي طبيعة علاقته مع مجتمعه تطفو مشاعر مناير ببطء، علی مدار 30 سنة إلی السطح، لتعرف مشكلتها الحقيقية كامرأة تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة واقعة بين الماضي والحاضر، بين أمها نادية وبين ابنتها هدهد، بين امرأة لم يحبها أحد كما تريد، وبين ابنة لا تراها، تقع هي كامرأة لا يريدها أحد من الأساس في محاولة منهم لتطهير أي أثر لحكاية تبدو في ظاهرها حكاية عادية عن الخيانة، ولكنها في داخلها أعمق وأعقد من أي تأويل. نادية، مناير، وهدهد، ثلاثة أرواح تمر كل منهن علی الحياة بنفس الميراث، بنفس الثقل والعذاب والرغبة في الحب كامتداد لحرمان عاطفي.
صدامية المأساة
التجاهل التام الذي حلّل علاقة البنت بوالدها وجعلها علاقة هُلامية لا يظهر منها إلا الصدمات المتتالية هو أحد الأشياء التي ورثتها مناير من أمها نادية. وبالرغم من أن الموتی يتركون لذويهم أشياء مادية كالأموال والأراضي وما إلی ذلك، ولكن نادية رغماً عنها وبلا أي فرصة للاختيار أو المقاومة تركت لابنتها الشعور بالعار والذنب والرغبة المستمرة في التحقق، في الوجود ولو بشكل جزئي بسيط أو هامشي.
الصدمات التي ضربت عقل وعواطف مناير لم تحمل أي شاعرية ما في صياغتها، كانت الجمل القصيرة المبتورة هي التي تصف إشاحة وجه أو نظرة مجوفة من عيون الأب الزجاجية لعيون ابنته الباهتة كالرصاصات، جمل لن تحاول الفتاة الشفافة تجميلها أو إضافة أي بُعد شاعري لها تاركة قارئها في بئر عميقة ممتلئة بالإبر التي توخز وتؤلم وتخترق القلب. ربما يكون أجمل شيء في الكتابة هو الشعور بالتعافي حينما ننتهي من الكتابة عن ما يؤلمنا، ربما نكتب من أجل البوح بالشعور السيئ الذي يتغذی علی الكتمان، نكتب للتداوي، للتأريخ، عن القضية، وعن الإنسان، تختلف الأسباب ولكن تبقی الحقيقة واحدة وهي أن كل الأشياء يمكننا الكتابة عنها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.