"إن أحكام القيمة لديكم ونظرياتكم حول الخير والشر ليست سوى وسائل لممارسة السلطة".
تُلخص مقولة نيتشه علاقة الأخلاق بالسلطة، وكيف أن "الأفكار والمواقف" تكون صائبة أو خاطئة بحسب قوة معتنقيها أو ضعفهم، وكيف أن فرضها هو طريقة لممارسة السلطة!
أولاً: علاقة الأخلاق بالسلطة:
لقد ظلت العنصرية ضد السود أمراً أخلاقياً تماماً لقرون، ولم ينكرها أعظم رجال عصرها، وحتى في إعلان الاستقلال الأمريكي، الذي حضَّ على قيم الحرية والعدالة والمساواة الإنسانية، فقد كانت هذه الحقوق محصورة بالعرق الأبيض فقط، دون أن يؤرّق ذلك ضمير أحد من منظري وفلاسفة الاستقلال.
واستمرت العنصرية أمراً أخلاقياً إلى أن حصل انقلاب فكري داخل مجتمع البيض أنفسهم، جعلهم يتبنون أخلاقيات المساواة بين البشر، فتحولت العنصرية إلى أمر مرفوض ومستقبح.
الأمر نفسه ينطبق على التحولات في الموقف الأخلاقي نحو اليهود، وظهور ما يسمى بمعاداة السامية كمعيار أخلاقي لا يمكن المساس به، ثم تحولات الثورة الجنسية، وتغير الحكم الأخلاقي على حرية الجسد والعلاقات خارج الزواج، حيث أصبحت الإباحية الجنسية فجأة أمراً أخلاقياً بمجرد اختراع موانع الحمل!
وكل هذه التحولات الأخلاقية كانت نتيجة تحولات سياسية واجتماعية وفكرية وظرفية ما، أفرزت مواقف أخلاقية جديدة، تبنتها سلطة ما.
إن هذا ينطبق تماماً على قضية المثلية الجنسية، الذي تغير الموقف الأخلاقي منها ضمن سياقات سياسية وفكرية واجتماعية تفسّر هذا التغير، فإن كان نتيشه قد تحدث عن "أخلاق السادة" فإنّ أبرز ما ساهم في تغيير الموقف الأخلاقي من المثلية الجنسية هو "أخلاق هوليوود"، وجماعات الضغط المتنفذة التي مررت أجندتها إليها، ثم قامت التيارات السياسية بتبني هذا الموقف لتحقيق مكاسب سياسية بحتة!
إذاً الحكم الأخلاقي على المثلية هنا يستند إلى مرجعية ذاتية غير موضوعية، واستحسان عقلي بحت لدى فئة من الناس، وهو ليس مرتبطاً بمعايير علمية، بقدر ما هو نتاج صيرورة تاريخية وسياسية وثقافية، محصورة في زمان ومكان محددين، وبالتالي لا يمكن فرضها على كل الأزمنة والأمكنة الأخرى.
ثانياً: لكن ألم يثبت العلم أن المثلية ليست مرضاً؟!
قد يقول البعض "العلم هو المعيار، والعلم أثبت أن المثلية ليست مرضاً".
إن كون فعل ما "مرضاً" شيء، وكونه فعلاً "أخلاقياً" شيء آخر، فالقتل قد لا يكون ناجماً عن مرض، والسرقة قد لا تكون خللاً في المخ، والاغتصاب قد لا يكون قَدَراً جينياً، ولكنها أفعال مرفوضة أخلاقياً.
ثالثاً: صراع فكري أم صراع قوى؟
من الواضح وجود انقسام أخلاقي حول المثلية الجنسية، بين من يعتبرها مقبولة أخلاقياً، كأطياف واسعة من المجتمعات الغربية، ومن يعتبرها غير مقبولة أخلاقياً كأطياف واسعة من المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة حول العالم بشرقه وغربه. فللصين الشيوعية الملحدة موقف صارم من المثلية، وإيطاليا الأوروبية المسيحية رفضت بالأمس تمرير قانون يدعم المثلية الجنسية.
إن الصراع هنا ليس صراعاً فكرياً بقدر ما هو صراع قوى، يريد فيه الأقوى أن يحتكر معايير الخطأ والصواب، ويفرضها على العالم أجمع، في قضايا غير محسومة، لأنها ببساطة لا يمكن أن تُحسم، بل هي متروكة للاستحسان والاستقباح العقلي، حتى الآن على الأقل.
ولذا فإن من حق أي مجتمع التمسك بمعاييره الأخلاقية في رفض ما يريد اعتماداً على مرجعيته الأخلاقية الخاصة، وأيّ محاولة لسلب هذه المجتمعات حقها وحريتها في وضع معاييرها الأخلاقية الخاصة هي عملية إرهاب فكري وسلخ ثقافي بالقوة.
إن أهم أدوات هذا الإرهاب الفكري المُمارَسة حالياً هي "الصوابية السياسية"، وسلوكيات "قُل ولا تقل"، ثم "ثقافة الإلغاء" التي بدأت تتوحش.
رابعاً: هل هذا يعني أننا في مجتمعاتنا العربية ليس لدينا خطاب كراهية ضد المثليين؟
بالطبع لدينا خطاب كراهية ضد المثليين، يتفجر فيه العنف والسادية، ونفرغ فيه غرائزنا العدوانية غير المضبوطة، ونلحظ هذا الخطاب مثلاً في التعليقات الوحشية على المنشورات التي تتعلق بهذا الموضوع، أو في حوادث الإيذاء والاعتداء، التي يغلّفها مقترفوها بثوب الدفاع عن الفضيلة.
وهذا الخطاب تجب محاربته، ويجب حماية كل الناس بسلطة القانون وبدون تفرقة على أي أساس كان، فنحن لا يحق لنا أن ندعو لإيذاء شاربي الخمر أو الزناة أو المثليين، ولا الانتقاص من حقوقهم ولا التمييز ضدهم، لأن أي إيذاء أو تمييز هو فعل غير أخلاقي، فهم أشخاص لهم كامل الأهلية ويجب أن يعاملوا باحترام.
أما الموقف القرآني الصارم تجاه المثلية فلم يكن موجهاً تجاه "أفراد"، بل كان موجهاً تجاه "قوم"، أي مجتمع كامل يريد فرض "مثليته" على الجميع، ويمارس في سبيل ذلك أساليب الضغط والإيذاء، كما في قصة النبي لوط عليه السلام، لذا فهذه الآيات ليست مبرراً لإطلاق العنان لوحشيتنا في التعامل مع "أفراد"، لمجرد أنهم يقومون بما نراه خطأً، وإلا لَرأينا الناس تضرب بعضها بعضها في الطرقات عند كل خطيئة أو ذنب.
خامساً: ماذا نستنكر في المثلية إذاً؟
ما يجب استنكاره في نقاش مسألة المثلية هو تحويل ما يفعله المرء في غرفة نومه إلى "هوية" يجاهر بها.
وما يجب الوقوف ضده هو السماح لفئة قليلة في المجتمع، عاجزة عن التكيف مع بنية هذا المجتمع، وهي هنا بنيته الأسرية، إلى أن تعبث بهذه البنية وتنسفها من أجل أن تشعر بالانتماء!
وقد بتنا نرى في بعض المجتمعات الغربية إعادة تعريف لمفاهيم الذكورة والأنوثة، وخانات ثالثة ورابعة عند تحديد الجنس في استمارات الدولة، وبتنا نرى إعادة تعريف لمفهوم الأسرة إلى أسرة من رجلين وأسرة من امرأتين وربما أنواع أخرى غير مألوفة.
إن الجنسين يجب أن يبقيا ذكراً وأنثى فقط، وإن الزواج يجب أن يبقى بين رجل وامرأة فقط، ولا يجب أن نغير هذه المفاهيم من أجل أن نحتوي أفراداً قلّة لا تلائمهم بنية مجتمعاتنا هذه.
ومن أخطر ما يجب الوقوف ضده هو السماح "للأسر" المثلية بتبني الأطفال!
إن عمر تشريع الزواج المثلي لا يزال قصيراً جداً، ولا توجد بالتالي أي دراسات نفسية واجتماعية طويلة المدى، تحدد تأثير مثل هذه البيئة على نمو الأطفال وتفاعلهم مع المجتمع، فكيف يمكن المغامرة بحق الطفل في أن ينشأ نشأة سوية؟
وكيف نجرؤ أخلاقياً على استخدام أطفال لا يستطيعون أن يقرروا لأنفسهم لإثبات وجهات نظرنا الأخلاقية والترويج لها؟!
حين تدخَّلت الصين مثلاً في بنية الأسرة بشكل سافر وحددتها بطفل واحد فقط، استناداً إلى "استحسانها العقلي" لهذا التغيير، لم تتوقع أن يحصل فيها بعد ثلاثة أجيال هذه التبعات الكارثية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية وغيرها!
هذا العبث لا تظهر آثاره إلا بعد أجيال وبعد دراسات مستفيضة، ولكن هذا الاستعجال في الرضوخ لجماعات الضغط المثلية ليس إلا لتحقيق مكاسب سياسية ضمن خطط خمسية قصيرة.
سادساً: المثلية والعلم؟
إن وهم حرية العلم وحياديته هو وهم كبير، سبق أن كتبت عنه، فالمؤسسات العلمية واقعة تحت تأثير القوى السياسية وسلطة رؤوس الأموال التي تمول أبحاثها، وهؤلاء بالتالي يتحكمون ببوصلة البحث العلمي، ويوجهون هذه البوصلة لطرح أسئلة محددة مسبقاً تخدم أجنداتهم السياسية والاقتصادية، ولذا لا نرى بحثاً جاداً يطرح أسئلة تُشكك في مدى "طبيعية" المثلية الجنسية، ومدى تأثير هذه التغيرات البنيوية على المجتمع.
إلا أنني أؤمن مع ذلك بأن المؤسسات العلمية في الدول الحرة بُنيت على أسس متينة، يصعب معها أن تسمح هذه المؤسسات لنفسها بأن تخدع نفسها، ولذا رأينا في 2019 صدور البحث العلمي الذي ينفي خرافة الجين المثلي، ويُثبت أن تأثير الجينات ضئيل جداً مقابل تأثير البيئة والنشأة في تشكل الميول المثلية، وهنا تكمن خطورة الدعوة لتقبل المثلية العلنية، والترويج لها بلا هوادة، لأن هذا يغير في البيئة وظروف النشأة، ويعرّض الأطفال للتأثر بما كان من الممكن تجنبه تماماً.
وما زال أمام البشرية بعض الوقت حتى تستفيق من عبثها هذا، وتحرر نفسها من سطوة "أخلاق السادة" ودوغمائيتهم، وإرهاب جماعات الضغط والصوابية السياسية، وحتى ذلك الوقت لا يحق لأي مجتمع أن يستعلي أخلاقياً، وأن يفرض منظومته الأخلاقية الخاصة على المجتمعات الأخرى.
إن رفض المثلية الجنسية ليس خطاب كراهية، بل هو فعل مقاومة في وجه جزّاري الثقافات ومحتكري الحقيقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.