في أغسطس/آب 2018، افتتح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مجمع مصانع "أسمنت بني سويف"، التابع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وهو مجمع أضاف قدرة إنتاجية تزيد على 11 مليون طن أسمنت سنوياً، ليصبح حجم الإنتاج السنوي للأسمنت في السوق المصري يتجاوز 85 مليون طن. بينما سجل معدل الاستهلاك في عام 2020 قرابة 49.5 مليون طن، وهو ما يعني أن الإنتاج يفوق الاستهلاك بما يقرب من الضعف، في حين لا تُصدّر الشركات العاملة بمصر سوى 1.5% فقط من إنتاجها.
ذلك الوضع أدى إلى لتعرض أغلب شركات الأسمنت لخسائر، فمن بين سبع شركات أسمنت مدرجة في البورصة حققت اثنتان فقط أرباحاً في 2019، وكانت الأرباح في الحالتين أقل كثيراً منها في 2018، وفي مقدمة الشركات الخاسرة شركة "جنوب الوادي" للأسمنت، وأسمنت "سيناء"، و"بورتلاند طرة"، فضلاً عن "أسمنت السويس"، التي سجلت صافي خسارة قدره 1.18 مليار جنيه خلال عام 2019.
فائض الأسمنت بالسوق المصري يأتي أيضاً في ظل إصدار الحكومة لقرار منذ مايو/أيار 2020، بوقف إصدار تراخيص للمباني الخاصة في المدن الرئيسية وعواصم المحافظات، والسماح للحاصلين سابقاً على رخص بناء باستكمال أعمال البناء حتى الدور الرابع فقط، لحين انتهاء الاشتراطات البنائية الجديدة المفترض صدورها في قانون ينظم عملية البناء.
الأزمة مع شركة "فيكا" الفرنسية
في ظل تلك الأوضاع لجأت فشركة الأسمنت الفرنسية "Vicat" لرفع قضية خلال عام 2021 ضد مصر أمام مراكز التحكيم الدولية، حيث تقول إنها خسرت بشكل غير عادل في السوق المصري، بسبب السيطرة المتزايدة للجيش على قطاع الإنشاءات، وبالأخص قطاع الأسمنت، الذي يسيطر الجيش على 15% من حجم إنتاجه، ما يخلق منافسة غير عادلة بحسب مزاعم الشركة.
وفي ظل تمتع الحكومة الفرنسية بعلاقات وطيدة مع النظام المصري، من أمثلتها توقيع عقد بيع جديد مؤخراً لثلاثين طائرة مقاتلة من طراز "رافال"، تنتجها شركة "داسو" الفرنسية، فضلاً عن التعاون بين البلدين في مجالات أمنية واستخباراتية متنوعة، وبالأخص فيما يتعلق بليبيا ومنطقة الساحل والصحراء الإفريقية، فقدت شركة "Vicat" الأمل في توسط حكومة ماكرون لحل مشكلتها، ومن ثم لجأت لتقديم شكوى إلى "المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID)"، التابع للبنك الدولي، على أمل استعادة حقها في أن تظل المساهم الأكبر في مصنع أسمنت تديره في سيناء.
بالنسبة للقاهرة، يعتبر هذا التحدي القضائي الجديد مزعجاً من الناحية السياسية، فشركة "هايدلبرج" للأسمنت منخرطة بشكل كبير في المشاريع الضخمة التي يديرها الجيش مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، كما تعمل هايدلبرج مع مجموعة طلعت مصطفى القابضة المطورة للعقارات.
مشكلة شركة "Vicat" في مصر بدأت منذ بضع سنوات، ففي عام 2003 استحوذت "فيكا" على 40% من "شركة أسمنت سيناء"، التي تقع بالقرب من مدينة العريش في شمال سيناء. في حين تملك بقية الأسهم شركات مصرية، بما في ذلك صندوق التأمين الاجتماعي، وشركة مصر للتأمين، وشركة "سما للأسمنت" المملوكة لشركة الأسهم الخاصة "بلتون المالية القابضة. وبعد أن استحوذت "فيكا" على موطئ قدم لها في السوق المصري عملت على زيادة حصتها في "شركة أسمنت سيناء" لتصل إلى 56%.
لكن في عام 2017، أصدرت الحكومة المصرية قانوناً يحظر على المستثمرين الأجانب امتلاك أكثر من 45% من أي شركة مصرية في سيناء، مع الإشارة إلى أن القانون لا يُطبق عادة بأثر رجعي، لكن الحكومة طبقته على الشركة الفرنسية بالتزامن مع شنّ وسائل الإعلام المصرية حملة على شركة "فيكا" في عام 2019، اتهمتها خلالها باختراق الأمن القومي المصري. ومن ثم لجأت "فيكا" إلى الحكومة الفرنسية طلباً للمساعدة، لكن لم تتمكن من التوصل إلى تسوية ودية رغم جهود السفارة الفرنسية في القاهرة، بحسب ما ذكرته مجلة "إنتليجنس أونلاين" الفرنسية، في يوليو/تموز 2021. وهو ما دفع الشركة لرفع قضية تحكيم دولي مؤخراً. ويقع المقر الرئيسي لشركة "فيكا" بالقاهرة داخل مكتب شركة "سما"، التي يرأس مجلس إدارتها القيادي السابق بحزب الوفد منير فخري عبد النور، الذي شغل أيضاً منصب وزير التجارة والصناعة في الفترة من 2013 إلى 2015.
شركة "هايدلبرج" على خطى "فيكا"
الشكوى الثانية ضد الحكومة المصرية حدثت في أكتوبر/تشرين الأول 2021، على يد شركة "هايدلبرج" الألمانية للأسمنت، وفرعيها الفرنسي والإيطالي، حيث قدمت طلب تحكيم لدى محكمة التحكيم التابعة للبنك الدولي ICSID مثلما فعلت شركة "فيكا".
دخلت شركة "هايدلبرج" السوق المصري في عام 2016 بشرائها شركة "إيطالشمنتي"، التي أصبحت مساهماً في شركة السويس للأسمنت، بعد أن بدأت الدولة بخصخصتها عام 2001، ولاحقاً واصلت شركة هايدلبرج والشركات التابعة لها شراء المزيد من الأسهم في السويس للأسمنت، حيث حاولت شراء نسبة 32% المتبقية خارج ملكيتها، وفي نفس التوقيت وافقت هيئة الرقابة المالية المصرية على عرض مناقصة في عام 2020، تمكنت خلالها الذراع الفرنسية للمجموعة الألمانية من استخدام التفويض الممنوح لها، لتقديم عرض للاستحواذ على كامل شركة أسمنت "بورتلاند طرة"، عبر شراء نسبة الأسهم المتبقية البالغة 28% من الأسهم، لكن رغم مرور سنة على الموافقة على الصفقة فلم تُنفذ، حيث لا يزال لدى "هايدلبرج" شركاء، من أبرزهم مجموعة "ريمكو" للاستثمارات الإماراتية، التي تملك نسبة 14.5%، ومساهمون أصغر كشركة الأسمنت الوطنية المصرية المملوكة للدولة، والشركة القابضة للصناعات المعدنية.
تلك الأحداث توضح خلفيات صدور تصريح سابق لشركة "أسمنت السويس" في عام 2019، بأنها تتعرض لشكل ضار من أشكال المنافسة التخريبية في السوق المصري. وهو ما دفعها في مايو/أيار 2019، لإيقاف نشاط شركتها التابعة أسمنت "بورتلاند طرة"، وقفاً مؤقتاً، في ظل تدهور نتائجها المالية وتكبدها خسائر متزايدة، رغم أنها كانت شركة الأسمنت الأولى في مصر.
بالنسبة للقاهرة، يعتبر هذا التحدي القضائي الجديد مزعجاً من الناحية السياسية، فشركة "هايدلبرج" للأسمنت منخرطة بشكل كبير في المشاريع الضخمة التي يديرها الجيش مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، كما تعمل هايدلبرج مع مجموعة طلعت مصطفى القابضة المطورة للعقارات.
وفي نفس الإطار، طالب مؤخراً الرئيس التنفيذي لشركة "لافارج مصر"، التابعة لشركة "لافارج" الفرنسية، سولمون بومجارتنر، برفع أسعار الأسمنت في مصر بنسبة تتراوح ما بين 30-35%، قائلاً إنه قد يفكر في الانسحاب من نظام الحصص بالسوق المصري في حال لم تتغير الأمور، ومضيفاً أن مصر ليست مكاناً منخفض التكلفة لإنتاج الأسمنت مقارنة بالجزائر أو تركيا.
خطورة عسكرة الاقتصاد
تلك النماذج تكشف تضرر الشركات الأجنبية العاملة في مجال الأسمنت من انخراط الجيش في هذا القطاع ومنافسته لها، وهو ما يرسم صورة سلبية للاستثمار في مصر، تنافي مزاعم الحكومة بحرصها على تشجيع الاستثمار وجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية.
ما يحدث على أرض الواقع يضيف المزيد إلى رصيد قضايا التحكيم المرفوعة ضد مصر، التي تحتل المركز الخامس عالمياً بعد الأرجنتين وفنزويلا وإسبانيا وجمهورية التشيك من حيث عدد القضايا التي تواجهها الدول أمام التحكيم الدولي، وهي القضايا التي تستنزف الموارد، حيث دفعت الحكومة المصرية خلال العقد الأخير أكثر من 74 مليار جنيه كتعويضات للمستثمرين وللدول الأجنبية في قضايا التحكيم الدولي.
إن عسكرة الاقتصاد لا تشجع الاستثمارات الأجنبية، ولا تنعكس ايجاباً على المواطن المصري، إنما تولد تداعيات خطيرة على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد، كما تعرّض مصر لأزمات مستقبلية خطيرة، يكفي للدلالة عليها ازدياد حجم الدين الخارجي من 43.2 مليار دولار في عام 2013 ليصبح 134.8 مليار دولار ببداية عام 2021. وهو ما جعل فوائد الديون تمثل أكبر بند للإنفاق في الموازنة، حيث تستهلك 33% مـن إجمالي نفقات الموازنة السنوية. وهو ما لم تشهده مصر سابقاً بهذه الوتيرة سوى في عهد الخديوي إسماعيل، الذي تسببت سياساته الاقتصادية في وضع مصر تحت الوصاية المالية البريطانية والفرنسية. إن عسكرة الاقتصاد هي وصفة أكيدة للفشل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.