الآن الساعة الواحدة إلا الربع ليلاً، أسمع صباح فخري، وأجلس متعبة أمام شاشة الكمبيوتر وأفكر فيكِ.
بليالٍ سهرتها على شرفة منزلي أنتظر أشياء كثيرة كأي فتاة، وأحلم ربما بمكان أفضل، ولا أجد أفضل منك، لا أجد أنظف من هوائك وأكثر دفئاً من جدرانك.
أنا فتاة عادية من بيئة حلبية أصيلة تقدّس العائلة وتحترمها، أحب منزلي الذي غادرته مكرهة وأذكر عنوانه جيداً.
"الميريديان نزلة الهجرة والجوازات خلف مشفى عيسى"
أنتِ عنوان الأمل..
ما زلت لا أدري ما هو سبب حبي لك وتعلقي بك إلى هذا الحد، لكن أدرك تماماً عدد المرات التي لعنت نفسي بسببك، وذاكرتي التي تصر في كل مرةٍ أن تأتي إليك، وتبقى هناك، فلا مكان يليق بالذكريات غير اسمكِ.
على ما يبدو أن كلمة "مسقط رأسك" التي تقال عند السؤال عن جنسية الشعوب كانوا يقصدون بها أننا كحلبيين سنقع في حبك أنتِ وسنسقط بك أنت.
"صليني يا عيني صليني يا روحي"
هذا ما قاله صباح فخري الذي فارقنا منذ أيام، ومازلتِ هنا لا تفارقيني، وأظن أن الفراق صعب لأنني قريبة منك، أتخيل دائماً أن تصلني نسمة هواء منك أو ربما تأتي غيمة تمطر على شرفة منزلي الذي يبعد عنكِ.
بيت المغترب الذي أحاول أن أخلق به شيئاً منك، كأي فتاة عاشقة مقبلة على الحياة، أنا أصحو يومياً مقبلة عليكِ.
هل مللت من كلماتي؟
وهل عرفت عمَّن أكتب؟
أكتب عنها، عن صباحها المشرق، وجيرانها الكُثر، عن أصحاب ورفاق درب مازالوا هناك، رغم أنه من الصعب جداً العيش فيك، لكن أقدّر كل من قرر أن يبقى معك في أصعب الأيام.
أحسد نفسي كثيراً يا حلب لأني رأيت قلعتك، وشربت من مياهك، وأكلت من تفاحك، وكبرت هناك.
وخرجت بدموع سقطت على عتبة منزلي ولم تجف إلى الآن.
عندما يسألني البعض ماذا تركتِ هناك؟ أجيبهم أبي وإخوتي وأنتِ.
نعم تركتك أنت ومازلت أحلم بيوم عودتي إلى تلك الشوارع والبيوت.
البيوت.. عندما تدخل إلى بيوتها تشعر كأنه بيتك، لأنها دافئة جداً، تعطيك شعوراً بالراحة ورغبة في البقاء، لا أعلم حقاً ماذا حدث في رأسنا عندما غادرناكِ.
"يقولون الوطن ليس فندقاً تغادره عندما تسوء الخدمة"
إلى الآن تتكرر هذه الجملة على مسمعي، كأنه صوت داخلي يحاسبني على ما فعلت، ولماذا غادرت، أسأل نفسي مراراً عن السبب الذي جعلني أترك حلب وأنتقل إلى تركيا بحثاً عن حياة أفضل.
ستضحكين يا حلب إن عرفتِ أنني مازلت أبحث عن حياة أفضل كما كنت أبحث في بدايات لجوئي إلى هنا.
اعتقاداً مني أن الحياة الأفضل هي أناس يرتبطون بك ويعرفون تراثك ويكونون من عائلاتك المعروفة.
إلى الآن أنظر في وجوه من أعرفهم ولا أجدكِ.
إلّا في وجهها هي.
نور، صديقتي التي عندما رأيتها للمرة الأولى في العمل أطلتُ النظر إليها، وكأنها أنتِ، كأنني لمست حجارةً من أحجارك، أو عُدتُ إلى أرضك بعد سنين تعب وشوق.
أذكر هذا اليوم جيداً، هو اليوم الذي أتت فيه نور إلى الراديو بعد تهجير حلب "الباصات الخضر"، الذي أريد أن أمسح تاريخه من ذاكرتي وذاكرتها أيضاً.
يومها كرهتك، بكيتك، خلعتك، كأنك القلب الذي كنت أعيش به.
حلب أوجعتنا كلنا، تسببتِ لنا بدموع وذكريات مؤلمة لن نستطيع أن نشفى منها أبداً.
حلب خمرة حبك اسقنيها
يتبع…
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.