حاولنا من خلال هذه المقالات الماضية أن نقارب بعض المفاهيم السياسية التي نعتبرها محددة للسلوك السياسي، وخلفيتنا في ذلك كانت هي إعادة ربط هذا السلوك السياسي بنموذج مرجعي يُستند إليه حتى نوحّد المعنى والمعقول السياسيين، وحتى نجد لهذه الممارسات السياسية معياراً معرفياً وقيمياً نقيس به رشدها من غيّها.
هكذا إذن صارت خطتنا في هذا البسط المفاهيمي، انطلقنا من مفهوم السياسة الذي هو في نظرنا أم هذه المفاهيم السياسية، فاعتبرناها بمثابة التدبير الراشد للشأن العام للبلاد، وذلك من أجل حفظ مصالحه العامة المرتبطة بتنمية قدراته البشرية، ودرء المفاسد الكبرى عنه التي تقضي على الوازع الوطني، والتي تقلص من مساحة العطاء التنموي ونفعها العام وتوسع من مساحة الفساد بكل أنواعه المالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي.
ثم عرجنا إلى مفهوم الحزب السياسي باعتباره إحدى الأدوات الرئيسة لتنزيل هذه السياسة، ولكي يؤدي مهمته في حماية مفهوم السياسة من التبديد والعبثية، أسسنا لأربع أركان أساسية لهويته الكفاحية والنضالية وهي أن يكون منبثقاً من رحم المجتمع، أن يكون متعاقداً معه، أن يكون مستقلاً عن أية جهة من خارج مؤسساته، أن يكون طامحاً إلى الوصول إلى السلطة سلمياً بتفويض طوعي من المجتمع قصد تنفيذ برنامجه السياسي الذي يعتقد بصوابيته لإيجاد حلول لمشاكل البلاد.
ثم كان حديثنا في مضامين هذه السياسة، وبالتالي هذا الحزب وبرنامجه السياسي، وأكدنا على أن عنوان الإصلاح هو الموجه لهذه المضامين، ولهذا الغرض كان حديثنا عن مفهوم الإصلاح؛ حيث اعتبرناه بمثابة السعي الحثيث نحو تثبيت المصالح العامة التي تكون مرتبطة بتنمية القدرات البشرية للبلاد ودرء المفاسد العامة كما عرفناها سابقاً بما يعود بالنفع على المجتمع.
والطريق إلى الإصلاح هو طريق دونه أشواك وكفاح ونضال مستمرين، ذلك كما أن للإصلاح مقاوميه، فللفساد مقاوموه، وساحة النضال هي الحاسمة في رجحان موازين قوى معسكر على آخر من حيث هيمنته وتسييد برامجه وتصوراته، وتعتبر آلية المعارضة آلية رئيسة لمقاومة الفساد حين طغيانه ورجحان موازين قواه، حتى لا يستقر انتصاره وغلبته، لهذا أوليناها مكانة في هذا البسط المفاهيمي، واعتبرنا أن تحديد مفهوم المعارضة مرتبط أساساً بنوعية قواعد العملية السياسية المتعامل بها على مستوى النظام السياسي القائم، فإذا كانت هذه القواعد متفقاً عليها مجتمعياً، تصير المعارضة بمثابة ذاك التعبير المجتمعي المنظم الذي يحرص على مراقبة ومحاسبة السياسات العامة للحكومة التي حظيت بثقة الأغلبية، وإذا كانت هذه القواعد إكراهية وغير متفق عليها مجتمعياً، تصبح المعارضة بمثابة ذاك التعبير المجتمعي المنظم الساعي سلمياً وتدريجياً إلى تغيير هذه القواعد وإرساء بديل عنها متفق عليها مجتمعياً.
وإذا كانت المعارضة آلية رئيسة لمقاومة الفساد، فالأداء السياسي المعتبر لتقوية حضورها في الواقع ينبغي أن يكون أداء تكتلياً، وعلى هذا الأساس أدرجنا مفهوم التحالف باعتباره أحد المفاهيم المركزية التي توجه الأداء السياسي وترسم له خارطة واضحة يتحدد من خلالها معسكر الخصوم والأصدقاء بناء على معيار سليم ينهل من مفهوم السياسة كما عرفناه في هذا التحديد للخصوم والأصدقاء، واعتبرنا أن التحالف هو بمثابة ذلك السلوك السياسي الذي يلجأ إليه طرف سياسي، بتعاضد مع أطراف سياسية أخرى، نتيجة اتفاق تعاوني بينهم مبني على أساس برنامجي، تكون وجهته خدمة المجتمع والدفاع عن قضاياه وإرساء قواعد عملية سياسية متفق عليها مجتمعياً، وهو بذلك سعي حثيث نحو الإعلاء من شأن قيم السياسة والمصالح العامة للمجتمع، وتربية على نكران الذات الفئوية أو الشخصية، وعلى تنسيب للبرامج والرؤى، وتمرين على خلق التنازل الذي هو أصل عام في العمل الجماعي والتحالفي.
وهذه المفاهيم التي سبق بسطها تحيلنا أيضاً إلى سؤال التدبير السياسي للتدافع السلمي وآليته، ومن هذا المنطلق كانت إثارتنا لمفهوم الديمقراطية باعتبارها بنظرنا آلية لتدبير الاختلاف والتدافع السلمي، غايتها تحقيق مناط مبدأ مشاركة المجتمع في الاختيار والتقرير والتقويم، ومبدأ التداول الفعلي السلطة الذي يمنع من إمكانية التسلط والاستبداد.
ولأن السلوك السياسي لابد له من أفق نضالي واضح المعالم يعتبر هو النموذج الملهم للنضالات والمواقف والأحكام، فإننا خصصنا في آخر هذه الحلقات المفاهيمية حيزاً للحديث عن الآفاق النضالية؛ لا من حيث الدولة النموذج ولا من حيث المجتمع الذي تتأسس عليه هذه الدولة النموذج، فاعتبرنا الدولة بمثابة كل مؤسسات صناعة القرار السياسي الرسمي وتنفيذه وتقويمه، والمجتمع باعتباره ذلك الاجتماع البشري الممتد عبر الزمن تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، والمتكون من الأفراد والجماعات التي تجمعهم خاصية التقاسم المتبادل للعلاقات والقيم والمصالح والحاجيات والكفاءات والمواهب من شتى الأنواع والمجالات، وتحكمهم أنساق تاريخية وثقافية وجغرافية وإثنية ولغوية وعرفية حصل بينها تاريخياً تناغم وكان أساساً لتميز هذا المجتمع على مستوى هويته الجامعة على باقي المجتمعات الأخرى، المتميزة أيضاً بهويات مختلفة عنه ومتناغمة من حيث أنساقها التاريخية والثقافية والجغرافية والإثنية واللغوية والعرفية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.