مَا حُلْمُكِ؟… سَأَلْتُها…
وَقَدْ نَكَثْتُ يَميني بِأَلّا أنْكَأُ جُرْحاً خَبَأَتْهُ ابْتِسامَةٌ فِيهَا مِنَ البَراءَةِ والْحُزْنِ الدَّفينِ مَا فِيهَا….
نَعَمْ، سَأَلْتُهنَّ وَلَمْ أَشْعُر هَذِهِ المَرَّة بِالنَّدَمِ عَمَّا اقْتَرَفْت، لَم أَدْرِ أَهيَ تَتابعُ الخَيْباتِ قَتَلْنَني أَمْ رَغْبَةٌ دَفينَةٌ فِي نَثْرِ بُذورٍ مِنَ الأَمَلِ عَلَّهَا تُحْيِي نَفْساً أمَاتتْهَا قِلَّةُ الحيلَةِ أَوْ سُوءُ التَّدْبيرِ أَوْ جَهْلٌ تَخَمَّرَ بِتَقاليدٍ قَبَليَّةٍ أسْكَرَتْ صاحِبَها فَأَعَمَّتْ بَصَرَهُ وَبَصيرَتَه، رُبَّمَا تُبَعْثرُ أسْئِلتِي مَا سَكَنَ فِي النُّفوسِ مِنْ تَطَيُّرٍ فِي وَطَنٍ مُحْتَلٍّ، وَحَياةٍ مَا فَتِئتْ تَتَلَقَّف مَصائِرَهُنَّ كَريشَةٍ لَمْ تَعْرِفْ يَوْماً طَريقَها، تَسوقُهَا الجَداوِلُ والرِّياحُ للمَجْهول، أَو كَوَردَةٍ تَتَناقَلُها الأَيْدي عَلَّهَا تشْفي شَّبَقَ مُهْديها.
فِي مُخْتَبَرِ العُلُومِ، كَانَ لِقاؤُنا، فِي مُخَيَّمِ الأَمْعَري حُمِّلتُ الرِّسالَة، أُنيطَ بِي أَمانَةُ التَّبْليغ، وَتَبَسَّمَ لِي القدْرُ وَقَدْ اقْتَرَبتُ مِنْ حُلُمي، لِمَ لَا أَسْأَلُهُنَّ عَنْ أَحْلامِهِنْ؟ أَلَسُتُ قابِضاً بِاَلْجَمْرِ عَلَى حُلمي؟ ذَاكَ اَلَّذِي يُراوِدُني عَنْ نَفْسِي كُلَّ لَيْل، يَهْمِسُ بِي كُلَّ صَباحٍ أَنْ أُفقْ، أَلَمْ أَصُنْهُ بِالْأَمَلِ تَارَةً وأَرِتجيه بِالدُّعَاءِ تَارَةً؟ أَلَمْ أَرْوهِ بِاَلْكَدْحِ المُسْتَمِر؟ أَلَمْ أُسْكِنُهُ مَنْزِلَهُ مِنْ الرِّضَا فِيمَا شَاءَتْ بِهِ الأَقْدار؟ أَوَلَمْ يَكُنْ وِرْدي عَلَى وَسَادَتِي غَيْرَ "وَأَنْ لَيسَ للإنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى"؟ أوَلَسنا نَرْتَقِي كُلَّمَا اقْتَرَبْنَا مِنْ أَحْلامِنا؟ أوَلَسُنا أَحْرَاراً ذَوِي إِرادَة؟ أَلَمْ نَصِل بِقَناعَتِنا بِأَنَّ الإِنْسانَ إِنَّمَا يَعْلو بِعُلُوِّ أَهْدافِهِ وَبِقُدْرَتِهِ عَلَى هَزيمَةِ العَوائِقِ؟ أَمْ هِيَ اَلْعَثَراتُ تَرَدُّ اَلْساكِنينَ اَلْقانِعينَ أَسْفَلَ السافِلين مُذْ عَجَزُوا عَنْ أَحْلامِهِمْ؟ تَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ آمالُهُمْ، قُبِضَتْ أَرْواحُهُمْ، خَرَّت هِمَمُهُمْ، صَغُرَت مَطامِحُهُمْ، وَانْكَسَرَت رَغَباتُهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا، لَا شَيْءَ سِوَى أَنْ يَكُونُوا مَا أرادُوا يَوْمًا أَنْ يَكُونُوا.
فِي مُخْتَبَرِ العُلُومِ، كَانَ لِقاؤُنا، وَسَأَلتُهُن: سَيِّداتِي مَا حُلْمُكُنْ؟
وَتُخْطِئُ يَا هَذَا بَيْنَ الفَتاةِ والسَّيِّدَة، نَعَمْ وَأَيْمُ اللَّه، هِيَ الفَتاةُ السَّيِّدَة، فالسَّيِّدُ مَن سَادَ قَرارَهُ وَاحْتَكَرَه، وألْزَمَ طائِرَهُ عُنُقَه، وأحْكَمَ هَوَاه، وَحَسَمَ بَوْصَلَته، وَأَعْمَلَ عَقْله، وَأَنْصَتَ لِنَبَضاتِ قَلْبِه.
مَا يَنْفَعُ المَرْء لَو سَادَ الكَوْن وَخَسِرَ وُجوده، أَلَيْسَ الأَجْدَرُ بِهِ سيادَتَهُ لِنَفْسِهِ؟ يُقيمُ بِذَلِكَ حُكْمَهُ الذّاتيّ، أَلَمْ يَصْرُخ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ وِلادَتِهِ "سَأَصيرُ يَوْمًا مَا أُريدُ"؟
يَا هَذَا… يَا هَذَا… إِنَّمَا هوَ بُكاءُ الوَليدِ يَطْلُبُ مَا يَشُدُّ عودَهُ…
تاللَّهُ قَدْ جانبَكُمُ الصَّواب، إِنَّ تِلْكُمَ اَلْصَرَخات إنَما تَشي بِمِيلَادِ كِيَانٍ فَتِّيٍّ لَا اشْتِقاقٌ لِجِذْر، وَلَا تَخْلِيد لِذِكْر، وَلَا اِسْتِنْساخٌ يُعينُ عَلَى نائِباتِ الدَّهْرِ، وَقَدْ قِيلَ سُبْحَانَ مِنْ قَهْرَ عِباده بِالْمَوْتِ، تِلْكَ النِّهَايَةُ المُفْزِعَةَ، لِلْمَوْتِ رَهْبَة، وَأَيُّ رَهْبَة، رُعْبٌ يَتَغَلْغَلُ فِي النُّفوسِ مِنْ خُمولِ الذِّكْرِ بَعْدَ المَوْت وَقَدْ كَانَ مَا كَانَ، فمَا الحيلَةُ إِذَاً، تُرْشِدُنا- غَيْرَ راشِدَةٍ- تَقاليدُ القَبيلَة، بِأَنْ أَنْجبْ مِنْ يَحْمِلُ اسْمَكَ، وَيُتْقِنْ صَنْعَتَكَ، وَيَعْتَقِدْ مَذْهَبَك، يَكنُ لَكَ مُرادُكَ، أَمَّا في عُرْفِ الغَرْب فَلَا ضَيْرَ بِأَنْ تُسَمّيَ وَليدَكَ بِاسْمِكَ وَتَتْبَعُهُ بـ"جونيور" تَفي بِالْغَرَضِ للتمَييزِ بَيْنَكُمَا، بِذَلِكَ يَتِمُّ الخُلودُ فِي مُعْتَقَدِ اَلْبَشَرِ، وَقَدْ غَفِلُوا أَنَّ الخُلودَ فِي الأُولَى مَفْقود، لَا يَخْلُدُ سِوَى حُسْنُ الأُحْدوثَةِ، وَطيبُ الذِّكْر، وَمَا أَثْمَرَ مِنْ عَمَلٍ، نَصيحَةٌ أَوْ دَعْوَةٌ بِجَوْفِ لَيْلٍ أَصَابَتْ مَيْتاً فَانْتَفَضَت بهِ حَيَّاً بَيْنَ الأَحْيَاءِ، "وَمِن أحياها فَكَأَنَّمَا أحّيا النّاسَ جَمِيعاً"، الأَحْيَاءُ لَا يَمُوتُونَ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يُصيبُ ابْن آدَمَ، مِنْ تَعَبٍ وَسَقَمٍ وَمَوْت، إِنَّ فِي حَياتِهِمْ مِداداً لِحَياةِ غَيْرِهِمْ، أَصَابُوا قُلوبَهُمْ فَسَارَ فِيهم تَيّارُ أَمَلٍ جارِف، وَعَزَمٍ مُتَقَّد، وإقدامٍ مُتَوَهِّج، "وَقَلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسولَهُ وَالمُؤْمِنُونَ".
فِي مُخْتَبَرِ العُلُومِ، كَانَ لِقاؤُنا، سَأَلْتُهُنَّ، مَا حُلْمُكُنَّ، فَأَجَبْنَّ بِصَفاءٍ مَلائِكي، ورَغائِبيَّةٍ بَشَريَّةٍ، فَعَجِبْتُ مِنْ نَقاءِ أَحْلامِهِنَّ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوْهَرَ سُؤَالِي، فَأَكْمَلتُ نَكْءَ الجُروحِ بِسُؤَالِي: كَيْفَ السَّبيلُ لِنَيْلِ تِلْكَ الأَمانيِّ؟؟؟
فِي مُخْتَبَرِ العُلُومِ، سَادَ الصَّمْت، تَبِعَتْهُ فَوْضَى إِجاباتٍ مُبَعْثَرَةٍ، صُدِمتُ، ذُهِلُتُ، فُجِعْتُ، خَجِلْتُ، خَجِلْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِن مَنْظومَةٍ تَعْليميَّةٍ- أَنَا أَحَدُ ضَحَايَاهَا- لَا تَنْفَكُّ تُلَقِّنُ النَّشْءَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، تُثْقِلُ كاهِلَهُمْ بِالْكَثِيرِ مِنْ الفِيزْيَاءِ وَالكِيمْيَاءِ والْأَحْياءِ والرّياضيّاتِ وَغَيْرِها مِنْ العُلُوم، وَتُهْمِلُ إعْدادَهُمْ لِمَعْرَكَةِ الحَياةِ. إِنَّ هذا التَّعْليم التلقيني اَلَّذِي يَكونُ بِاَلْسَّرْدِ والْحِفْظِ وَالحَشْو بَلْ وَتَكْديسِ المَعْلُومَات، فَتُغْلَقُ بِذَلِكَ أَبْوابُ الحِوارِ والنِّقاش مَعَ الطَّلَبَةِ فَلَا تُسْمَعُ أَصْواتُهُمْ إِلَّا لِتَرْديدِ مَا يَقُولُ مُدْرَسوهم، إِنَّ هَذَا النَّمَطَ "التَّعْليميَّ" سَيُنْتِجُ بِأَفْضَلِ الأَحْوَالِ نُسَخاً مِمَّنْ كَانُوا فِيمَا نَحْنُ فِيه مِنْ المَآسي نَرْفضها جَمِيعاً وَنَحْلُمُ بِتَغييرِها.
مَا زِلتُ أُدارِي تورُّدَ وَجْنَتِيّ مِنْ هَوْلِ صَدْمَةِ إجَابَاتِهِم، أمسحُ تَّعَرُّقِي، أُعيدُ تَصْويبَ نظَّارَتِي، لِتُبَاغِتَنِي إِحْدَاهُن، سَأَلتْنا عَنْ أَحْلامِنا وَتَصِفها بالأَمَانِي؟؟!!
نَعَمْ يَا صَغِيرَتِي، مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُجَرَّدَ أُمْنِيَاتٍ تُدَغْدِغُ طُفولَتَكُم البَريئَةَ، تَقُولُونَ عِنْدَمَا نَكْبُرُ سَنصِير، فَمَتَى تَكْبُرون، مِنْ يُحَدِّدُ لَكُمْ ذَلِكَ، أَهوَ سِنُّ الرُّشْدِ؟؟ فَمَتَى هوَ؟؟ وَهَلْ يَعْتَرِفُ المُجْتَمَعُ بِرُشْدِكُمْ أَوْ رُشْدِنا يَوْماً؟؟ لِنَفْتَرِض ذَلِكَ، هَلْ تَتَحَقَّقُ "أحْلَامُكم" بِمُجَرَّدِ التَّقَدُّمُ في العُمْر، إِنَّمَا هوَ خَطُّ الزَّمَنِ يَجْري، لَا يَأْبَهُ لِي وَلَا لَكُنْ، فَمِن كَمالِ عَدْلِ الخالِقِ أَنْ يَمْضَيَ الوَقْتُ، وَمِن تَمامِ الحُظوظ أَنْ نَنْتَزِعَ مِنْهُ أَحْلامنا، نُحَقِّقَ ذَواتنا، نَرَى مُنْجَزاتِنا تَدْنو مِنَّا تَارَةً ونُدنيها تَارَةً، أُجِيبُكِ يَا صغيرتي، إِنَّمَا تَغْدو اَلْأُمْنِياتُ أحلاماً حَيْثُمَا تُزَرعُ وتَنْبُتُ فِي تُرابِها، تَتَجَسَّدُ حامِلها، تَتَمَلَّكُ فُؤادَهُ، وَيَبْذُلُ لَهَا الْغَالِيَ والنَّفيس لِلْوَفَاءِ بِهَا، نَعَمْ الوَفاءُ بِهَا، تَسْتَحِقُّ مِنَّا نُفوسنا أَنَّ نَفِيَها حَقَّها، أَنْ نجودَ بِمَا نُحِبْ وَأَنْ نَصْبِرَ عَمَّا نَكْرَه، لِنَظْفَرَ بِهَا، حَسْبُكِ مَا قَالَ رَبُّكِ "لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". لَا تَعْدُو اَلْأُمْنَياتُ سِوَى خَواطِرَ تُرَاوِدكَ فِي سُكونِكَ، تُحَدِّثُكَ بِمَا تُحِبُّ سَماعَهُ، وَلَنَا فِي حِكَمِ أَميرِ شُعَراءئنا خَيْرُ بُرْهانٍ حِينَ قَال:
وَمَا نَيْلُ المَطالِبِ بِالتَّمَنّي وَلَكِنْ تُؤْخَذُ الدُّنْيَا غَلابًا
وَمَا اسْتَعْصَى عَلَى قَوْمٍ مَنال إِذَا الإِقْدامُ كَانَ لَهُمْ رُكّاباً
لِكَيْ تَصيرُ أَحْلامُنا وَاقِعاً، عَلَيْنَا بِتَكْسيرِها…
مَاذَا تَقولُ؟؟!!
لَمْ نَعُدْ نَحْتَمِلُ هَزّاتكَ، تَقول "عَلَيْنَا بِتَكْسيرِ أحلامِنا لِتَحْقِيقِهَا"، فَكَيْفَ ذَاكَ؟؟
إِذاً أَصَبتُ مُرَادِي، إِنَّمَا هِيَ هَزّاتُ صِدْقٍ مَعَ الذّات، لِتولِّدَ الحَقيقَةَ مُجَرَّدَةً مِنْ زَخْرَفَاتِهَا.
فما السبيل؟ إِذْ نَكْسِرُ أَحْلامَنا بِأَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ تَكْسِرَنا بِاسْتِحَالَةِ تَحْقيقِها، بِتَجْزِئَتِها، بَلْ بِتَفْتيتِها لِأَهْدافٍ واقِعيَّةٍ مُحَدَّدَة، سَهْلَةِ المَنَال، قَصيرَةِ الأَمَد، مُتَّصِلَةٍ بِاَلْمَسارِ، قابِلَةٍ لِلْقِيَاسِ وَالتَّقييمِ وَالتَّقْوِيم.
فِي مُخْتَبَرِ العُلُومِ، عَادَ الصَّمْت، رُبَّمَا يَلْتَقْطِنَ أنْفاسَهُنَّ، فَلَمْ يَعْتَدْنَ أَنْ يَسْمَعَ أَحَدُهُمْ لِماهيَّةِ أَحْلامِهِنَّ، أَوْ رُبَّمَا اسْتَقَامَ المَنْسِم، وَأَصَابَتْ كَلِماتِي ثَغْراً مُحْصَنًا فِي مَنْظومَةِ اَلتَّعْليمِ والْمُجْتَمَعِ، أَوْ لَرُبَّمَا كَانَ صَمْتُهُنَّ هوَ قِمَّةَ الِانْفِعالِ، فَأَكْثَرُ اللَّحَظاتِ إِثارَةً لِلِانْفِعَالِ فِي حَياتِنا هِيَ اللَّحَظاتُ اَلَّتِي يَبْلُغُ مِنْ انْفِعالِنا لَهَا مَا لَا نَجِدُ مَا نَقولُهُ فِيهَا مِنْ كَلِماتٍ.
لَمْ يُعَكِّرْ صَفْوَ صَمْتِنا هَذَا سِوَى سُؤال دَاهْمَتْنِي بِهِ إِحْدَاهُن: يَا اُستاذ؛ أَوْرَدتَ فِيمَا ذَكَرَت أَنَّ مِنْ تَمامِ الحُظوظِ تَحْقيقَ اَلْأَحْلام، فَهَلْ لِلْحَظِّ مَوْطِئُ قَدَمٍ فِي التَّخْطيطِ وَحُسْنِ التَّدْبيرِ والْإِدارَةِ؟؟
أَقول، إِنَّ الحَظَّ كَمَا يُعَرِّفُهُ الأُسْتاذ كَريم الشّاذْلي، إِنَّمَا هوَ التِقاءُ الفُرْصَة مَعَ سَبْقِ الإِعْدادِ. الفُرَصُ مُتَناثِرَةٌ مِنْ حَوْلِنا تَنْتَظِرُ مِنْ يَظْفَرُ بِهَا بِحَقِّهَا، وَمَا حَقُّهُا؟؟ أَنْ يُحَدِّدَ أَحَدُنا مُراد حَياتِه، يُهَيِّئَ جَوَاباً لِسُؤال "َعنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاه؟" جوابُهُ مَنْهَجُ حَياتِهِ، بِأَنْ يُنَظِّمَ خُطَّتَهُ، يُعِدُّ عُدَّتَهُ، يُقيمُ حُجَّتَه، يُؤَدّي دَعْوَتَهُ، ثُمَّ يَسْتَجيبُ رَبُّ القَدَر، فِيَنْجِلِي بِذَلِكَ ليلُه.
وَفِي الخِتَام، هَلْ تُكْسَرُ الأَحْلام أَمْ تَمرضُ كَمَا يَمْرَضُ الحَالِمُونَ وَيُكْسَرُون؟ ؟
عَنْوَنَتُ مَقَالَتِي هَذِهِ بِاقْتِباسٍ مِنْ قَصيدَةِ "يَحِقُّ لَنَا أَنْ نُحِبَّ الخَريف" لِمَحْمُود دَرْوِيش يَقُولُ فِيهَا "أَيْمَرْضُ الحُلْم كَمَا يَمْرَضُ الحَالِمُونَ؟ خَرِيفٌ خَرِيف، أَيُولدْ شَعْبٌ عَلَى مِقْصَلَة؟؟"
ذَلكَ تَساؤُلُ الشّاعِر، فَبِمَ يُجيبُ الأَسيرُ والْمُفَكِّرُ الفِلَسْطيني الدُّكْتور كَميل أبو حنيش، يَقُول- وَهُنَا أقْتَبِس- "تِلْكَ اَلْأَحْلامُ اَلَّتِي لَا تَزَالُ بِذَاتِ تَوَهُّجِها، تَكبُرُ مَعَكَ وَتَنْضَجُ فِي أَعْماقِكَ، وَتَحْرِصُ عَلَى تَشْذيبِها كَيْ تَظَلَّ خَضْراءَ مُزْهِرَةً، وَحَتَّى لَا تُصَابَ بِالْجَفَافِ فتَذوّي، لَكِنَّكَ تُصَابُ بِالِارْتِباكِ وَأَنْتَ تُلَامِسُ صَدْمَةَ الواقِعِ حِينَ تَتَسَلَّلُ إِلَى عالَمِ الأسرِ المُغْلَقِ بَعْدَ الصُّوَرِ والْحِكاياتِ الموجِعَةِ اَلَّتِي يَلْفَحُ بِردُ صَقيعِها شَتْلَاتِ زُهورِ أَحْلامِكَ اليانِعَةِ".
أَقول، كُلٌّ مِنَّا يَعيشُ أَسْرَهُ الخاص، بَلْ وَآسَرِيه مِنْ مُعْتَقَداتٍ وَأَفْكارٍ وَأُناسٍ وأطلال، أَجِدُني أَعودُ إِلَى المُفَكِّرِ فَقَدْ نَطَقَتْ كَلِماتُهُ فِيمَا يَخْتَلِجُ بِخَاطِرِي، فَيَقُولُ: "أَمْ أَنَّ أَحْلامَنا هِيَ اَلَّتِي تُفارِقُنا بَعْدَ أَنْ أَصْبَحْنَا غَيْرَ جَدِيرِينَ بِهَا؟ أَهوَ العُمْرُ وَأَوْجاعهُ اَلَّتِي تُتْعِبُنا؟ فِي مَرْحَلَةِ الشَّباب نَكونُ فِي حالَةٍ أَكْثَرَ إِرادَةً وَقُدْرَةً وَصَفاءً عَلَى رَسْمِ أَحْلامِنا وَمُتابَعَتِها، وَمَعَ الوَقْتِ تُنْهِكْنا هَزائِمُنا الصَّغيرَةُ، فُنولي مُدْبِرين، ثُمَّ تَتَسَاءَلُ مَرَّةً أُخْرَى: أَيْنَ تَكْمُنُ المُشْكِلَةُ؟ فِي الحُلْمِ ذاتِهِ أَمْ فِي الحَالِمِينَ؟ وَلِمَاذَا تَصِلُ بِنَا الحَياةُ إِلَى هَذِهِ الحُدود الفاصِلَةِ اَلَّتِي تَحولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُلامَسَةِ الحُلْمِ؟ تُحاوِلُ الإِجابَةُ عَنْ تِلْكَ التَّساؤُلاتِ، يُضْنِيكَ البَحْثُ وتُتعبكُ الحَيْرَةُ فِي الإِجاباتِ، وَتَقُول فِي ذاتِكَ "إِنَّ الحُلْم هوَ سُؤالُ الحَياة، وَأَنَّ الإِجابَةَ عَلَيْهُ تَقْتَضِي البَحْث فِي مَعْنَاهَا العَميقِ، تُحاوِلُ البَحْثَ فِي الفارِقِ بَيْنَ الأَوْهامِ والْأَحْلام، وَإِنْ كَانَت ثَمَّةَ شَعْرَةٌ فاصِلَةٌ بَيْنَهُمَا، إِلَّا أَنَّ الأَوْهامَ تَظَلُّ ذاتيَّةً بِامْتِيَاز، وَقَريبَةً مِنْ دائِرَةِ الْابْتِذال، والْأَوْهام هِيَ أَحْلامٌ مَعْطوبَةٌ جاثيَةٌ عَلَى هامِشِ الحَياةِ، لَا أَحَدَ يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا سِوَى المَعْطُوبيْنِ اَلْهائِمينِ فِي فُقّاعاتِ ذَواتِهِمْ، أَمَّا الأَحْلامُ فَتِلْكَ اَلَّتِي تَضِجُّ بِالْحَيَوِيَّةِ والْجَمال، تِلْكَ اَلَّتِي تَمْلَؤُنا شَغَفاً وَحُبَّاً لِمُوَاصَلَة الرِّحْلَة بِالْحَيَاةِ، هِيَ الشّاهِدَةُ عَلَىَ نُبْلِ رِحْلَتْنا الإنسانية تِلْكَ اَلَّتِي تَلازُمِنا دائماً".
أَن نَحْلُم يَعْني أَنَ نُمارِسَ إِنْسانيَّتنا وَحَقَّنا فِي الحياة، الحُلْم هو إِحْساسُنا العَميق بالوجودِ، هوُ لهْفتُنا وَلذَّتُنا السِّرِّيَّة، وَنُشْوتنَا الداخلية، وَنَدَاؤنَا الباطِنيَ، وَنَحْن نَذْهَبُ بِشَغَفٍ وَراءَ أَحْلامِنا اَلَّتِي تَمْنَحُ المَعْنَى لِحَيَاتِنَا، هِيِ سِلاحُنا فِي الرَّد عَلى صَلَفِ الحَياةِ وَأَوْجاعِها، هِي رَفْضنا لِمَأْساة الواقِع، وَتَمَرُّدْنا عَلَىَ كُلَ مَظاهِر اليَأْسِ والخمول.
أَن نَتَوَقَّف عَنَ الحُلْم يَعْنِي أَنِ نَعْتَزِلَ الحياة، أَنْ نَتَخَلَّى عَنَّهَا يَعْنِيْ إِفْلاسنا وَهَزيمَتَنا أَمَامَ المَعارِكِ الصغيرة، أَن نَهْرُب مِنْهَا يَعْنِي أَنَّنَا لَم نَعُد جَدِيرِين بِالْحَيَاة، يَمْرَضُ اَلحالِمُ عِنْدَمَا يَتَلَاشَىِ إِحْسَاسُهُ بِلَذَّةِ الحُلْمَ، أَحْيَاناً تَتَأَخَّرُ أحلامُنا لتَأْتِيَ فِي غَيْرِ مَوْعِدِها أَو تَتَحَقَّقُ خارِجِ ذَواتِنا، وَحِين نُنْجِزُ حُلْماً تَبْدَأُ نُشْوَتُنَا فِيِ التضاؤل، وَمَع مُرور الزَّمَن لَا يَتَبَقَّى مِن الحُلْم سِوَى أَطْلاله السّاخِرَة مِن شَغَفَنا بِالْمَاضِي، وَلِهَذَا نَبْدَأُ مِنَ جَديدٍ فِيِ شَقِ الطَّريقِ نَحْوَ حُلْمٍ آخَر، فَكما يَقولُ شاعِرُ ذَوِي العَزم:
والبَحْرُ أضْيَقُ مِنْ مَطَامِحِ هِمَّتِي
والشّمْسُ بعْضُ توقُّدي وَيَقِينِي
ولكن، عِنْدَمَا تَهْزِمنا الحَياةُ ونَلوُذُ تَحْتَ قَوْقَعَةِ الخيبات، فَإِنِنَا نَبْقَى مَع أَشْباحِ أَحْلامِنا اَلَّتِي تَظَلُ تُلَاحِقُنَا، تَتَضَخَّمُ فِي أَعْماقِ دَواخِلِنا لِتَقْتُلَ فِيَنَا رُوح الحَياة، هَكَذَا يُحَدثُ لَنَا أَفْرَاداً وَجَماعاتٍ، فَهَل يَمْرَضُ الحالمون؟ أَجْل، يَمْرَض الحالمون، يُصيبُهم التَّعَبُ فَيَتَسَاقَطُ بَعْضُهُمْ فِي مُنْتَصَفِ الطريق، فَيَلْجَأونَ إِلَى حُلمٍ آخَر أَقَلَّ شَأْنَاً وَنُبْلاً وَإِشْراقاً، لَرُبَّمَا يَسْخَرُون مِن أَحْلامِهم الكَبيرَة فِي الماضي، سَيَقُولُون إِنهَا كَانَتْ أَحْلامَ يقظةٍ، وَلَا يَعْتَرِفُون بِهَزائِمهم المَريرَة في مَيْدانِ الحَياة.
وَهَلً يَمْرَض الحُلْم؟ كلا، لا يَمْرَضُ الحُلْم، الحُلْم يَبْقَى حُلْماً، يَظَلُ مُنْتَصِباً شامِخاً جَمِيلَا متلألئاً أَمَامَ صاحِبِهِ اَلمَريض. الحُلْمُ لا يُصيبُهُ المرض وَلَا يَضيع في ضَباب اليَأْس والخيبات، يَمْرَضُ الحَالِمُون عندما يَتَخَلُّونَ عَن أحلامهم، وَيَبْقَى الحُلْم يَتِيماً فِي انْتِظارِ أَنِ يَأْتيَه فارِسٌ أَكْثَرَ شَغَفاً وَحَرارَةً وَتَوَهُّجاً لِكَي يُنجِزه، فَكُنْ ذلِكَ الفارس.
فِيِ مُخْتَبَر العلوم، كَان لِقاؤنا، فِي مُخَيَّمِ الأَمْعَري بِرَام اللَّه المُحْتَلَّة، هَأنذا وَقَدِ سَنَحَتْ لِيِ الفُرْصَةُ أَخِيراً بِأَن أَقِفَ مُحَاضِراً وَقَدِ تَمَنَّيتُهَا طَوِيلاً، بِالشَّرَاكَةِ مَعِ مُنَظَّمَةِ إِنْجازِ فِلَسْطين يَنْطَلِقُ البَرْنامَجُ الهادِفُ لِنَشْرِ وَعْيٍ خلاَّقٍ يُزْكي قيَم الإِبْداعِ وَاَلْتَأْصيلِ لِما يَتَنَاسَبُ وَروح العَصْرِ مِنْ الِابْتِكارِ والتَّطَوُّرِ الرَّقْمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.