حين ظهر مفهوم الوطنية (الأمة) في أوروبا، كان يجد معناه في مفهوم سابق له، هو "الإرادة العامة"، التي تعني اتحاد طموحات، أشخاص يتشاركون نفس المكان، لاستثمار اختلافاتهم الواضحة (المصالح)، لبناء مستقبل أفضل (الآمال)، عوض التورط في خلافات مميتة تقودهم إلى الغرق في صراعات قاتلة، "فالإرادة العامة" كانت تهدف إلى محو خطأين تاريخيين من حياة أوروبا: الصراع الديني والتفويض الإلهي في الحكم.
كان الحل قائماً على "العلاقات" بين الناس في "الحياة اليومية"، على "حاجاتهم" و"آمالهم"، فالمكان الذي يجمعهم يفرض عليهم الصراع أو التعايش، ولأن الصراع كان لا يعيد سوى الآثار المضرة، فإن التعايش كان هو الضامن لاستمرار الحياة في أوروبا، وهكذا تولدت "ذهنية" جديدة تبحث عن الانعتاق من "إرادة التمذهب" نحو "إرادة عامة" تجمع الجميع حول "مصير مشترك".
لقد كان مفهوم المصير المشترك أهم مبدأ في مفهوم الإرادة العامة من الجانب الذي قضى على خطأ الصراع الديني.
هذا من جهة، من جهة أخرى تمكن موسوعيو ومثقفو أوروبا من تفسير الإنجيل، بفضل ترجمات البروتستانتيين له، التي وجهت الانتباه إلى مرونة القراءة لهذا الكتاب، مع كسر احتكار الإكليروس (رجال الدين) له. فتمكن عامة الناس الذين لا يتقنون اللاتينية (لغة الكنيسة والاقطاعيين) من إعادة قراءة الكتاب المقدس، و"تظليل" الكلمات المفاتيح التي تهم وضعهم في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، وقد فجّر هذا نقاشاً حاداً، ومميتاً أحياناً، حول العلاقة بين الكنيسة والقيصر، وبدأ الأمر يتوجه إلى وضع "علامة الاستفهام" حول ما لقيصر وما للمسيح، فتم إخراج العلاقة من سياقها اللاهوتي إلى سياقها التاريخي، فتموضع "التأويل" حينها في مجال "الإنسانيات"، بدل "الميتافيزيقا" (ما بعد الطبيعة)، فصار بإمكان المثقف (بمفهوم عصر الأنوار) أن يقارن بين وضع العالم الغربي في تلك المرحلة، بوضعه في المرحلة الرومانية والإغريقية، وهكذا اخترعوا كرونولوجيا "للحكم" وتواليه في أوروبا، فطرحوا سؤالاً حول "كيفية حصول ملوك أوروبا على التفويض الإلهي ليحكموا الشعوب؟" ولأن السياق التاريخي لا يؤمن سوى بالوثائق المكتوبة، فإنهم قد لاحظوا أن الأمر مجرد خدعة محاكة من طرف النبلاء (فرسان الهمج) والإكليروس، ووجدوا أن الحكم لم يكن سوى عن طريق "القوة" وفرض "الشرعية" التي حصلوا عليها بكذبة التفويض الإلهي. وهكذا فكروا (مثقفو أوروبا) في كذبة مناقضة، ليهدموا الكذبة الأولى، فاخترعوا خرافة "العقد الاجتماعي". لقد حطموا خرافة بخرافة، ولكن كانت خرافتهم أفضل من الخرافة التي سبقتهم.
إن مفهوم "العقد الاجتماعي" هو مبدأ آخر مهم ضمن مفهوم "الإرادة العامة"، حاول الانعتاق من "إرادة الأوتوقراطية (الأقلية)".
لكن لكي تتماسك هذه الإرادة وتبنى كان لابد لها أن تتأسس على "ميثاق" متين يتضمن مجموعة من "المبادئ" التي يمكن بواسطتها أن تتحالف الطموحات والآمال والمصالح المختلفة.
إذن، أسقط مفهوم "المصير المشترك" خطأ "الصراع الديني" وأسقط مفهوم "العقد الاجتماعي" خطأ "التفويض الإلهي في الحكم". وهكذا اكتمل مفهوم "الإرادة العامة" التي لم تكن لتستمر لولا ارتباطها بمفهوم "الوطن".
فنقطة الضعف التي كانت تهدد بقاء "الإرادة العامة" هو سؤال مهم: "كيف يمكن الجمع بين التعاقد الاجتماعي والمصير المشترك؟ بين الماضي والمستقبل؟ ففكرة التعاقد الاجتماعي ترتبط بالماضي، فهي خرافة تتحدث عن اجتماع مجموعة من الأفراد في الماضي القديم، لتنظيم أمورهم وتجاوز مشاكلهم، للاتفاق حول ميثاق لا يخرقه أحدهم، بحيث يتعهد كل واحد منهم بأنه سيحترم الميثاق، وإن لم يحترمه سيُعاقب.
أما فكرة المصير المشترك فتتجه نحو المستقبل، فهي أمل (وهم) نحاول أن نجتمع حوله، وإن لم نفعل ذلك فسنفقده، فالمصير المشترك هو ما سنصير إليه إن نحن اتفقنا.
إذن، كيف سنحترم العقد الذي جاء من الماضي حتى يمكن أن نحمي علاقاتنا لحماية المصير المشترك الذي يوجد في المستقبل؟
الجواب هو "الحاضر"، والحاضر هنا هو "الوطن". فالحاضر هو الرابط بين الماضي والمستقبل، والوطن هو الذي يجعل العقد الاجتماعي يرتبط بالمصير المشترك. فبفكرة الوطن، يشعر الناس بأنهم "كل واحد في الآن والهنا" ولا يمكنهم أن ينفصلوا، فبدون عقيدة الوطن "الوطنية" لا يمكن للاختلافات أن تلتم حول عقد اجتماعي ولا حول مصير مشترك.
وفي الأخير، سنطرح سؤالاً استنكارياً، هل يمكن للوطنية أن تستمر إن لم يحترم مفهوم العقد الاجتماعي ومفهوم المصير المشترك؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.