"لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون روسيلليني".
- فيلم قبل الثورة (1960)
العبارة التي جاءت على لسان إحدى شخصيات المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي، تتجاوز وصف تأثير المخرج الإيطالي روسيلليني لتصف حالة ازدهار السينما في مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات. تنفس الناس الأفلام وشغلت جانباً مهماً من حياتهم اليومية حينها.
حالياً، لم تفقد السينما أهميتها كأداة للترفيه وأيضاً عنصر للتأثير على الثقافة الجماهيرية وبث الأيديولوجيا، لكنّ سؤالاً مهماً طُرح على المخرج السويدي روي أندرسون يوضح تغيراً حدث في صناعة الأفلام: لماذا لا تصنع أفلام مثيرة للإعجاب مثل الستينيات؟
تشبه الناقدة والروائية الأمريكية سوزان سونتاغ، في مقالتها (انحطاط السينما) دورة حياة السينما بنشأة وأفول الإمبراطوريات "من ميلاد حتمى ونمو متزايد للأمجاد ثم انحسار حتمى بداية من عقد التسعينيات".
جذب نقد سونتاج العديد من المؤيدين ضمن أطروحة موت السينما. التشاؤم بشأن مستقبل الفن السابع يضرب في الجذور الأولى للسينما، عندما صرح الأخوان لومين في بداية القرن العشرين "السينما اختراع بلا مستقبل".
على النقيض، اتسمت نظرة الفيلسوف فالتر بنيامين بتفاؤل أكثر عندما قال إن السينما هي "الفن الوحيد الممكن في المستقبل". راهن بنيامين على إمكانية التحرر المخفية التي يمكن أن تنتج من التبادل والتفاعل الحيوي بين الفن والثقافة الشعبية. ولا شك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود، وما هو مقدس بالنسبة له، ليس سوى الوهم، أما ما هو مدنس، فهو الحقيقة. وبالأحرى، فإن ما هو مقدس يكبر في عينيه بقدر ما تتناقص الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث إن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس. (فيورباخ، جوهر المسيحية، 1841)
ما يقوله الفيلسوف الألماني فيورباخ يظهر واضحاً بالنسبة للعصر الحالي، حيث الصورة تحرك الوعي، العاطفة، والموقف الأخلاقي. الخوف من الخطر الذي يشكله توغل الصورة وتحكمها في المشاهد، جعل أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابهما "جدل التنوير" (1975) ينتقدان الموقف الذي اتخذه بنيامين حيث لاحظ كلاهما الاتجاه إلى التسليع العالمي والجماعي للفن بهدف خدمة الأغراض التجارية وليس الثقافية.
يرى المخرج السويدي روي أندرسون أنه مع تطور الإمكانيات مما يسمح للعمل بسرعة أكبر بسبب تخفيف القيود والعقبات التقنية، غاب الصبر والموهبة والمال. وبالعودة إلى مقال سونتاج، فقد رأت أن الاستثناء هو صناعة فيلم ينجح في تجاوز العقبات والقواعد والممارسات "التي تحكم صناعة السينما في أي مكان في العالم الرأسمالي".
الأفلام التجارية تعيد إنتاج نفسها مقدمة نفس الموضوعات العقيمة للجمهور، أفلام يشبه طعمها مذاق اللبان الممضوغ. وهذا ما جعل السينما التي وصفت "في إحدى المرات بأنها فن القرن العشرين.. تبدو الآن كأحط الفنون". (سوزان سونتاج، انحطاط السينما)
في ذات السياق، يقول الشاعر بول فاليري: "هناك سلعة اسمها الفكر كما أن هناك سلعة اسمها النفط أو القمح أو الذهب". تستمر هذه السلعة في الهبوط، سواء سميتها سينما أو فكراً أو موسيقى، لكني لست متشائماً تماماً إزاء تلك الفنون وغيرها. وسأوضح لماذا؟
مأزق السينما المصرية
لكن بالنسبة للسينما المصرية، فلا يخفى على أحد أن صناعة السينما وما يدور حولها من دعاية ورعاية، الصحف، القنوات التلفزيونية، الجميع في معسكر واحد موجه من قبل السلطة باعتبارها المالكة لرأس المال. وهناك رفض ظهر من البعض للسينما التي تموضع نفسها خارج رأس المال الكبير أو على هامشه. لأنه يخرج من نظام الاحتكارات، ويتمرد حتى على مبدأ صناعة النجم. صناعة السينما في مصر بائسة للدرجة التي لا تستطيع أن تحدد فيها ذوق الجمهور، لأن ما يوضع أمامهم يتناولونه، وتعزز الإنتاجية الرأسمالية الرثة من السينما الشعبية بمعنى أنها السلعة المستساغة من غالبية الجمهور في الوقت الراهن. والتي يفضل معها أن يكون المشاهد أقل وعياً وتدخل تلك الأفلام في علاقة تبادل مع المشاهد. وهكذا يرتبط الإنتاج والاستهلاك معاً في ذوق متدنٍّ. ولا يعني هذا أنها أفلام رخيصة التكلفة، بل ممولة ببزخ، لخدمة غرض.
وتقدم صورة مشبعة بالألوان، وهي في حد ذاتها لا تخبرنا شيئاً على الإطلاق بالرغم من ألقها الهائل. (السينما في عصر النيوليبرالية) وتعوض تلك الأفلام بأنها لا تملك شيئاً لتقوله، بإغراق المشاهد في كمّ متكلف من التفاصيل الفارغة والتي لا تعني شيئاً. هكذا تكتمل عناصر التضافر بين وسائل الإعلام والثقافة الجماهيرية من جهة والتسليع وإنتاج الحقيقة من جهة. وهذا الكائن الضخم الذي يتكون من تلك المعادلة يرفض الجسد الدخيل المستقل الذي لا يندمج مع جسد السلطة. وقد يظهر أحد أشكالها باستبعاد السينما التي تملك ما تقوله، وتضع نفسها في سياق قضية أوسع، تهم العالم في اللحظة الراهنة، تحتوي أبعاداً فلسفية أو شاعرية في الحياة، تسمح لنا الأفلام بمشاهدة غير المرئي في العالم. تعطي تجربة مشاهدة فيلم يضع نفسه في سياق الاهتمام بالعالم وبالذات الإنسانية، وضع الفرد في سيرورة الحاضر ووجوده داخل حركة التاريخ، عبر الفصل ينظر المشاهد للواقع أمامه كشيء منفصل يثير تفكيره ويبدأ في تناوله كموضوع يباشر من خلاله فهمه للواقع. هذا ما يعطي للفيلم قيمة تأملية، ويجعله ممارسة فكرية وروحية تهدف إلى استعادة علاقتنا بالعالم، كما يقول الفيلسوف ستانلي كافيل.
تحدثت عن صناعة السينما في مصر في نطاق سيرورة جدلية حضارية، تتشابه فيها تحوّلات الأيديولوجيا الرأسمالية الاحتكارية بالنسبة للخاص المحلي وتشابهه في إنتاج الكيف الرديء، ودوره في التطويع والهيمنة داخل المجتمعات الحديثة. وضع هوركهايمر مقولتي التسلية الشعبية والصناعات الثقافية معاً حيث يكون الوسيط بينهما هو التطويع.(فيل سليتر، مدرسة فرانكفورت) يمكن وضع هذا في نمط أوسع هو نمط المجتمع الاستهلاكي. مركزية صناعة الترفيه والتسلية ضمن النسق الكلي للصناعة الثقافية (جان بودريار، مجتمع الاستهلاك) تفرغ مفهوم الفن من معناه، ويهبط به إلى مستوى "المحتوى" كما يلاحظ ذلك المخرج مارتن سكورسيزي. وبذلك يتم تسليع المنتج الفني بعد أن خلعت القيمة عنه. فأحد تمظهرات الهيمنة عدم السماح بوجود البديل، وانتفاء النقد فلا يفتح مجال للحديث عن أعمال سيئة وجيدة بل يقتصر النقد بالعرض على أحسن الأحوال.
تبدو المرحلة التي سمتها سوزان سونتاج "انحطاط السينما" مبالغاً فيها، موت الفن ليس مفهوماً يمكن تجسيده في هذه الحالة، إنما هو حدث تكويني لفضاء تاريخي أنطولوجي عارم، حيث لا يستمر الفن كظاهرة إنما يغدو جزءاً ضمن نظرة استطيقية معممة للوجود. (إدريس كثير، هشاشة الفن المفرطة) بهذا المعنى، يبدو أن هناك تغييراً في تحليل والحكم على قيمة الفن. حيث حدث تحول في العملية الفنية من إدراك وتشكيل وتأثير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.