يحيل مفهوم الدولة إلى قواعد العملية السياسية التي تحكم النظام السياسي العام للمجتمع، بغض النظر عن طبيعة هذه القواعد ونوعيتها، كما سبق تبيانه، ذلك أن التمييز حاصل بين التعريف العام لمفهوم الدولة وبين نوعيتها وطبيعتها بناء على طبيعة قواعد العملية السياسية المعمول بها.
فما مفهوم الدولة؟ وهل الدولة هي السلطة التنفيذية؟ وما هو مجال اشتغالها وصلاحياتها؟ وكيف ينبغي لها أن تكون حتى تعبر عن اختيارات المجتمع؟
سنتناول هذا المفهوم من خلال ثلاثة عناصر رئيسية:
أولاً: مفهوم الدولة.
ثانياً: الدولة الأنموذج ومنشؤها الأصلي والطبيعي.
ثالثاً: الدولة والمجتمع مجال الاشتغال والصلاحيات.
مفهوم الدولة
يتحدد في تقديرنا مفهوم الدولة بالمحددات التالية:
- المحدد التنظيمي:
ومنه ضمان الأمن والنظام العام بهدف تمدين التعايش الجماعي حتى لا تعم الفوضى التي تضيع فيها الحقوق وتسلب فيها الممتلكات ويسود منطق الغاب.
- المحدد الحمائي:
ومنه حماية البلاد من أي اعتداء أجنبي أو احتلال للأرض المحلية.
- المحدد الوظيفي:
ومنه ضمان العيش الكريم لمواطنيها، وتوزيع عادل للثروة الوطنية، وضبط للمعاملات التجارية والاقتصادية والمالية حتى لا تنحرف ضد المصلحة العامة.
- المحدد القانوني والحقوقي:
ومنه ضمان الحقوق الأساسية لكل مواطنيها والحرص على تقنين يحمي هذه الحقوق والحريات، وعلى سيادة القانون على كل مواطنيها دون تمييز.
وعلى أساس هذه المحددات يمكن اعتبار الدولة بمثابة كل مؤسسات صناعة القرار السياسي الرسمي وتنفيذه وتقويمه بما يجعل آثاره العملية تسري على كل المجالات المجتمعية سياسة واقتصاداً وثقافة واجتماعاً وقانوناً، وبخلاصة فالقرار السياسي الرسمي هو الذي يتأطر بالمحددات السالفة الذكر ويشتغل على ضوئها.
الدولة الأنموذج ومنشؤها الأصلي والطبيعي
إذا كانت الدولة هي كل مؤسسات صناعة القرار السياسي الرسمي وتنفيذه وتقويمه، فهذا يعني أن هذا القرار صناعةً وتنفيذاً وتقويماً له، يخص المجال المستهدف الذي هو المجتمع باعتباره هو الذي يتلقى آثاره العملية، وإذن فالأصل في صناعة هذا القرار السياسي الرسمي وتنفيذه وتقويمه ينبغي أن يعود لهذا المجتمع، ولكي يكون القرار من صناعة المجتمع في إطار من الاختيار الطوعي الذي لا يدخله إكراه ولا إجبار، وجب بالتبع أن يصنع هذا المجتمع دولته التي ستصوغ قراره وتحميه وتنفذه وتحرص على تقويم مستمر له من طرفه.
إن المنشأ الطبيعي للدولة هو المجتمع الذي صنعها، وصاغ كل مؤسساتها المتخذة للقرار السياسي الرسمي أو المنفذة أو المقومة له، وذاك في تقديري معيار أساس لشرعية الدولة ولمشروعية قراراتها، وهو الذي صاغ القواعد العامة التي تحكم صناعة هذا القرار وتنفذه وتقومه كما سبق لنا ذكره في حديثنا عن قواعد العملية السياسية المتفق عليها مجتمعياً، ففي البدء كان المجتمع وبالتبع كانت الدولة التي يفوض لها المجتمع مسؤولية التقرير والتنفيذ والتقويم.
يتضح إذن أن الدولة:
- هي دولة المجتمع الذي صنعها وفوض لها مسؤولية التقرير والتنفيذ والتقويم عبر المؤسسات التنظيمية التي أفرزتها القواعد العامة للعملية السياسية المتفق عليها مجتمعياً.
- أنها ليست هي السلطة التنفيذية بل هي كل السلط التي تصنع القرار وتنفذه وتقومه.
الدولة والمجتمع.. مجال الاشتغال والصلاحيات
حين نقول بتفويض مجتمعي للمسؤولية إلى هذه الدولة لصناعة القرار السياسي الرسمي -الذي هو موضوعه- وتنفيذه وتقويمه، فهذا لا يعني في تقديرنا استقالة المجتمع وحصره مهامه كلياً في تلك التي فوضها للدولة، فالمجتمع بمؤسساته التي يفرزها باستمرار وبحركية فعله التي تجري بداخله تجعله يقوم على مهمة الرقابة على حماية المؤسسات التي أقامها، وعلى قواعد العملية السياسية التي اتفق على سريانها، وكما أن هذه العلاقات العمودية دولة-مجتمع تظل سارية المفعول من حيث المهام والوظائف، فكذلك العلاقات الأفقية مجتمع-مجتمع تظل قائمة بما يخدم حيوية المجتمع وفاعليته ونقصد بهذه العلاقات الأفقية التي تشتغل على المهام التالية:
- الحوار الداخلي لتطوير الأداء السياسي وتجويد القرار وآليات صناعة القرار وقواعد العملية السياسية، بما يخدم عملية حماية المجتمع من كل إرادة انفرادية إقصائية أو إلحاقية له.
- التكافل والتضامن العامين بما يجعله بعض مؤسساته مستقلة في مهامها عن الدولة، وتتسع مساحة اشتغال المجتمع وصلاحياته، على حساب مساحة اشتغال الدولة وصلاحياتها حتى ولو كانت هذه الدولة من صناعته، فكلما تنظم المجتمع واستقلت بعض صلاحيات ومهام مؤسساته، كلما تم درء مفسدة ابتلاع الدولة لكل المهام.
إن المأمول هو تضييق إلى أقصى حد لمجال اشتغال دولة المجتمع، وتوسيع إلى أقصى حد لمجال اشتغال المجتمع، والغاية من ذلك درء مفسدة ابتلاع الدولة لكل مهام المجتمع، والحرص على ضمان النظام العام وسيادة القانون في ظل كرامة الإنسان عموما والمواطن خصوصاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.