"الحبُ يجعلنا ضُعفاء، والأضعفُ بين الاثنين يُقتلُ، ويُدمره الآخرُ".. هذا الكلامُ هو ما تستشهدُ به مؤلفتا كتاب "الفلاسفة والحب" لعرض الجانب السوداوي في تجربة الحب، وفقاً لهذه الرؤية فإنَّ الحب وجه آخر من الحرب، وتسقط في حلبته الضحايا، كما يتركُ جروحاً بليغة لدى المُحبين، ولا تكون حالة الحُب والغرام مُكللة بالورود، مشعّة بالأمل، بل قد يولد من كل حب عظيم أفكار قاسية وعنيفة، حسب تصور الفيلسوف الألماني نيتشه، وبذلك لا يخلو الأمرُ من النزق، وأشبه بالانجراف وراء المجهول، ولكنَ الكاتب الروسي فيودور دويستويفسكي يُفضلُ معالجة موضوع الحب في روايته العاطفية "الليالي البيضاء" بناء على فلسفة مرحة، بعيداً عن كل الالتواءات في التعبير والرومانسيات البكائية التي تنضحُ بالحزن والتحسر على زمن غابر ومشاعر حب فائضة، لم تَعُدْ منها إلا أحلام شاحبة، هذا لا يعنى أنَّ صاحب "الشياطين" ينقطعُ تماماً عن تقاليد الأُسلوب الرومانسي، ويضرِبُ بعاطفة الحُبِ عرض الحائط، بل يُفتش عما هو مضمر في المشاعر الحميمية من مصادر السعادة، وما يحتاجُ إليه الإنسان من إقامة التواصل مع الآخر، وضرورة الخروج من حالة الانغلاق على الذات، ومُشاهدة تأثير انفعالاته الداخلية في ذهنية المُقابل، لعلَّه بذلك يجدُ تفسيراً لما أشكلَ عليه.
شخصيات رواية "الليالي البيضاء" محدودةُ، بل يتركزُ الحوارُ بين شخصيتين، الراوي الذي من مفتتح العملِ يخاطبُ المتلقي مباشرةً، مستعيداً وقائع أربع ليالِ، ولا يكون مهيمناً على خيط السرد، بل يتخلى في بعض المقاطع عن وظيفته، تاركاً زمام الروي لصديقته ناستينكا، التي بلغت السابعة عشرة من عمرها للتو، ومضى على غياب حبيبها عام، وهي بدورها تسردُ قِصةَ حياتها لمن تلتقي به فجأة، بينما هى واقفة في المكان الذي تنزهت فيه مع حبيبها قبل أن يسافر إلى موسكو، ولا تقف حياة ستينكا عند هذا الحد، وهذا لا يكون إلا حلقة مما ترويه لصديقه الذي لا يُذكر له اسم.
الوحشة والحب
تمرُ ثماني سنوات على وجود بطل الرواية في مدينة بطرسبورغ من دون أن يفلحَ في بناء علاقات الصداقة، يمضي أوقاته في متابعة سير حياة المدينة قبل أن يأوي إلى ركنه الذي عشش فيه العنكبوت، ولا يتبادلُ التحية إلا مع العجوز الذي يُمسكُ بعصا ذات مقبض ذهبي، إذ يفسر موقف العجوز بأنَّ الأخير أيضاً ربما يعاني من الكآبة والوحدة، لذلك يُومِئ إليه ويُحيّيه برفع القبعة، كأنَّ بدوستويفكي يُحيلنا إلى فالتر بنيامين، الذي يقول إنَّ "الغريب هو نسيب الغريب".
يتخيلُ الشاب الوحيد أنَّ المنازل تتحاور معه، وتحكي له قصته، وأحياناً تخبره بما ينوي أصحابها من القيام بأعمال الهدم والترميم، أو إضافة طابق جديد إلى المنزل، وبهذا تصبح المنازل صديقةً للبطل الذي يُفوض إليه المؤلف مهمة تضفير وحدات القصة، وأحياناً يتوهمُ صرخات أحد أصدقائه مشتكياً عن إعادة صبغه بلون لا يعجبه، بجانب ذلك يتابعُ هذا الشاب رحلة أهالى بطرسبورغ إلى الضواحي وبعض الجزر، ويصفُ مشاهد تلك التنقلات وما يتوقعه عن وجهة الأُسر البطرسبورغية، ويصورُ لحظات نابضة بالجمال، ما يوحي بأنَّ الراوي مرهف الإحساس متذوق لما يحومُ في مُحيطه من مناظر لطيفة، مثلما تراه في هذا المقطع.
هناك انفتحتْ نافذة في البداية، طبلت فوقها أنامل ناعمة وبيضاء كالسكر، ثم برز رأس فتاة جميلة، أومأت لبائع متجول ينقل أصص أزهار، وبذلك يجمع مؤلف "مذكرات قبو" بين جمال المرأة والطبيعة، فضلاً عن ذلك يتكررُ في مشاهد أخرى يشبه أجواء مدينة بطرسبورغ وما يتشكل لدى الراوي من انطباعاتِ متناقضة حيالها، فتاة قد لا تسترعي انتباهك، ولكن في لحظة ما فجأةً تغدو جميلة تَمْلِكُ قلبه، هكذا الوحدة لا تمنع هذا الشاب من إدراك جماليات مناخ المدينةِ التي يجوب في أرجائها مُنفرداً، بل يُفْهَمُ من سياق تعبيراته أن سحر الطبيعة وجمال المرأة لا ينفصلان، وبهذه الخلفية التي تتبلور عن أحد ركني القصة التي ينهضُ عليها هيكلُ العمل، يكتفي المؤلف باسترسال السرد في قالب أقرب إلى المونولوج، ويتحول إلى مفصل جديد في بنية الرواية.
علاقة مشروطة
تدخلُ حياة البطل مرحلة جديدة، عندما يتعرفُ على ناستينكا، فهي تبدي تعنتاً في الانفتاح على السارد الذي يتناهى إليه صوت بكائها، وما اقترب منها حتى هربتْ غير أن الموقف يتغيرُ حين يتحرش بناستينكا أحدُ السكارى، وما كان من الشاب إلا أن يتداركها منقذاً إياها من نزوة السكير، وهذا التصرفُ يكونُ منطلقاً لبناء علاقة الصداقة بين الاثنين، ومن ثُمَّ تتضحُ تركيبة الشاب أكثر، إذ ليس له دراية في التعامل مع الجنس الآخر، وهذا ما تشعرُ به الفتاةُ، حيثُ لا تخطئ في قراءة علامات الارتباك على محياه، ويتواعدُ الاثنان على اللقاء في كل ليلة، غير أن أمر اللقاء مشروط بألا يقعَ الشاب في حُبِ ناستينكا، ويبدأُ كل واحد منهما بمكاشفة ما يجولُ في خاطره، حيثُ يصفُ الشاب بأنَّه شخص حالم، وما يتمناه لا يعدو كونه جملةً من تخيلات مراهقة، هو يريد أن يتقمص شخصية شاعر مجهول، إذ سرعان ما يتوجُ بأكليل المجد، كما أن أدوار البطولة تداعبُ مخيلته، ولا يقتنع بدور أقل من دور مشاهير الثورة الفرنسية.
يفضلُ الشابُّ أن يتخذ فاصلاً بينه وبين ما يتخيله، وذلك عبر توظيف الضمير الغائب، ويدسُ المؤلف في هذا الإطار أسماء بعض وقائع وشخصيات تاريخية، مثل (هوفمان، مذبحة سان بارتيليمي، كليوباترا، دانتون، معركة بيريزينا)، وبعض الجمل التي يتفوّه بها الشاب تكشفُ عن جانب عبثي من شخصيته، وما يمكن أن تستخلصه عبر ما يُعرض عن هذا الشاب، بأن الأخير ينقصه الحبِ، ولو تحقّق كل ما يحلمُ به لا يعوض غياب الحب، مقلب آخر من القصة هو ما ترويه ناستينكا عن حياتها مع جدتها العجوز وهي ضريرة تتعهد برعاية الفتاة بعدما غيبَّ الموتُ والديها، تعلمها اللغة الفرنسية.
يذكر أن الثقافة الفرنسية كانت أنموجاً آنذاك، لذا كثيراً ما يشير الأدباء الروس إلى فرنسا في متون رواياتهم أمثال (ليرمنتوف، تورغينييف، تولوستوي).
تربطُ الجدة ثوب الفتاة بثوبها بدبوس لتظلا مرتبطتين، وجدوا حياة الفتاة اليافعة هي المجال الذي تتحرك فيه الجدة، ولا تنفعُ محاولات ستينكا للإفلات من هذا العالم الضيق، تستمرُ أيامُها على هذا المنوال إلى أن يحلَّ شاب مستأجر في بيت الجدة، يزود الفتاة بالكتب، وهي من جانبها تقرأها للعجوز، مع أن الأخيرة تتحفظ على القصص الغرامية، وتتطور العلاقة المغلفة بالحذر إلى أن يُصاحبَهما الشاب في ارتياد المسرح ومشاهدة أوبرا حلاق إشبيلية لروسيليني، تحسُّ الشابة بما يساورها من حالة غريبة كلما صادف وجود الشاب، الذي بدأ يوليها اهتماماً، بينما تنشأُ بذورُ الحب في قلب ناستينكا يفاجِئهُا النزيل بمغادرته للمنزل، هنا تريدُ ناستينكا مرافقة حبيبها، لكنَّ الأخير يقنعها بأن ظروفه لا تساعده على الزواج، وفي الوقت نفسه يتعهدُ بأنه سيعود بعد سنة من موسكو ويتزوجها إنْ انتظرت، وهي تتمسك بأهداب الحلم، وما إن يقترب موعد عودته حتى تعاود زيارة مكان تنزههما، غير أن أياماً تمضي ولا يظهر الحبيبُ، ولا يردُ على رسالتها، ما يدفع بناستينكا أن تفكر في الارتباط بصديقها، وتدعوه إلى أن يقيمُ في منزل الجدة، وفي الليلة الأخيرة حين تمشي الفتاة مع صديقها الجديد تسمعُ صوتاً يناديها، فإذا بها تجدُ حبيبها السابق، هنا تتكثفُ حركة درامية وتتبين خطوط الحبكة، والثيمة الأساسية، وهي أن الحب حالة لا تُفسر، ولا بديل لمن تُحبه، بالمقابل فسلوك الراوي وموقفه الخالي من الإحن والندب على الحظ بعد عودة ناستينكا إلى حبيبها يبرزُ ضرورة المرونة مع أطوار لا يمكن تحليلها وفقاً للمنطق المتعارف عليه.
العمل موزع على أربعة فصول، والأسلوب يتميز بالخفة والسلالة في التعبير، وتنتهي الرواية بوصول جواب حبيب ناستينكا إلى الراوي، لأنَّ الأخير راسله بعنوانه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.