في خضم الانهيار المفاجئ الذي تتعرض له العملات الرقمية، بدأ الجميع يتساءل: "هل نحن أمام آخر مشهد من مسلسل العملات الرقمية، أم أنه انهيار مشابه لما حدث في العام ٢٠١٧، وأن الأسعار ستعود إلى طبيعتها".
إذا قدر لنا أن نتحول عبر آلة الزمان، وأن نبحر بها بعيداً في عمق الزمان الماضي، لوجدنا أن العملة قد خضعت لسلسلة من العمليات الجراحية التي غيرت مظهرها جملة وتفصيلاً، لكن جوهرها لم يتغير كثيراً، لقد كانت الرحلة طويلة والمقارنة مثيرة: ما بين العملات الطينية إلى المعدنية، وما بين العملات المصنوعة من الصفيح الى الذهبية، ثم الانتقال من العملات الورقية إلى بطاقات الائتمان البلاستيكية.
نُقل عن الإمام مالك أنه قال: "لو اتخذ الناس عملة من جلود لكرهت أن يتعاملوا فيها بالربا". لقد أثبت إمام دار الهجرة أنه يرى بنور الله، ويبصر ببركة العلم. لا غرو، فهو هنا يبحر في آفاق المستقبل ليخبر أقرانه أن العملات التي يتعاملون بها قد لا يكون لها ذكر في القادم من الزمان، وأنه سيأتي يوم تتخذ فيه عملات لا يتصورها العقل ولا يقبلها المنطق.
عندما بدأت آلية التمويل عبر سندات الملكية Equity Based Finance في بداية القرن السابع عشر في كل من إنجلترا وهولندا وفرنسا (وهي الآلية التي مهدت لتطور البورصات) تعرضت أسهم الشركات الناشئة وقتها لانهيارات كبيرة. لكن ذلك لم يعن فشل النموذج the proposed model. فقد عكفت أسواق المال على تطوير هذا المنتج الجديد ووضعت من الضمانات والتشريعات ما جعله يصمد أمام عثرات البدايات، حتى أصبح سوق الأسهم هو السوق المهيمن على الاقتصاد العالمي، متجاوزاً سوق السندات (ولا يخفى على القارئ الكريم أن السندات أقدم تاريخاً من الأسهم).
إننا اليوم نشهد فصلاً جديداً من فصول مسلسل العملات، وغني عن القول أن التطور التكنولوجي جعل من الممكن استحداث عملات ورقية، لا قيمة لها في ذاتها، لكن قيمتها تكمن في إيمان المتعاملين بها، ولاشك عندي أنه من الممكن أن تنهار بعض العملات الرقمية (والتي تجاوزت الآلاف من العملات المختلفة)، لكن يقيني أن هذه الانهيارات ستدفع إلى المزيد من التطوير والتحديث والتقنين لهذا النمط الجديد من العملات.
عندما ظهرت عملة البيتكوين في العام ٢٠٠٨ سخر منها دهاقنة المال والأعمال، راهنوا على سذاجة فكرتها، لكن في نفس العام تعرضت أسواق المال إلى أكبر انهيار في التاريخ الحديث، تجلت إحدى نتائجه في فقدان الثقة في النظام النقدي العالمي على وجه العموم، والدولار الأمريكي على وجه الخصوص، فقد اخذت الحكومة الأمريكية تتوسع في طباعة الدولار لتمويل عمليات التحفيز الاقتصادي، ولاشك أن هذا التوسع في الطباعة يؤثر على قيمة العملة ويقلل من الثروات، كما أن المتعاملين في السوق أخذوا يجأرون بالشكوى من عمليات المراقبة التي يتعرضون لها، وبدأوا في البحث عن عملة تمنحهم قبعة الاختفاء.
لست أزعم هنا أن الانهيار الذي تعرضت له العملات الرقمية ابتداء من منتصف الأسبوع الماضي هو من قبيل الـ cyclical movement وأن أسعارها ستعاود الصعود، فقناعتي أن عدداً من تلك العملات سيذهب إلى سلة المهملات. لكن التاريخ يخبرنا أن العملات الرئيسية منها ستصمد، وأن البنوك المركزية لن تجد بداً من التعامل معها وإصدار التشريعات التي تمنحها قبلة الحياة. فقد رأينا من قبل تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي، التي أعلنت صراحة أن العملات الرقمية أصبحت أمراً واقعاً، وأن البنوك المركزية يجب عليها أن تغادر مرحلة الشك والغرور، وأن تتقبل هذا الواقع الجديد.
إن أهمية العملات الرقمية لا تأتي من جهة قبول العالم لها (والذي أدى إلى القفزة المهولة في أسعارها)، لكن أهم ميزة تحمله العملات الرقمية أنها توفر Technical Framework يمكن من تبادل الأموال بين البشر في كل أصقاع العالم بصورة مباشرة دون الحاجة لوسيط أو طرف ثالث، هذه الميزة كفيلة بتدمير الفكرة أو الـbusiness model الذي تقوم عليه شركات تحويل الأموال وحتى جزء من مهمة البنوك، وعليه يمكن توقع أن يكون أثر البيتكوين على قطاع الحوالات مماثلاً لأثر الأوبر على شركات التاكسي.
لقد حاولت منذ فترة تصور مستقبل العملات الرقمية في اقتصاديات دول العالم الثالث، والتحدي الذي ستمثله على البنوك المركزية في دول العالم الثالث، لا سيما أن العملات المحلية لم تعد محل ثقة، الشيء الذي يدفع المواطنين للمضاربة على الدولار، وعليه أتوقع أن يقل الطلب على الدولار في دول مثل السودان ومصر ولبنان، وأن يزداد الطلب على العملات الرقمية ببساطة، لأن المواطن البسيط سيعي أن القيمة الشرائية للدولار الذي يقتنيه آخذة في التدهور نتيجة للتوسع في طباعة الدولار، بينما سعر البيتكوين في ارتفاع مستمر، وهنا لابد أن نؤكد على حقيقة مهمة، وهي أن الدولار لا يصدر عن حكومة الولايات المتحدة، وإنما من الاحتياطي الفيدرالي (وهو مؤسسة خاصة ليست حكومية) ومن البنوك التجارية الكبرى أيضاً، هذه الحقيقة تدحض المنطق الذي يقول إن "العملات الرقمية لا تصدر عن دول لها سيادة".
إن محاولة الحكومة الصين التصدي للبيتكوين قد يفسر في إطار الحفاظ على مشروعها التاريخي الخاص بالذكاء الاصطناعي AI، والذي تسعى من خلاله للسيطرة على مواطنيها، ولا شك أن الصين قد تفوقت على أمريكا في انظمة الدفع الإلكتروني وتحويل الأموال، حيث تعتبر أن هذه الانظمة تمكنها من مراقبة الجمهور ومعرفة التفاصيل الحقيقية حول نمط الحياة، كما أنها تقود للحد من استخدام العملة الورقية (والتي يصعب مراقبتها)، وقد نجحت الصين بجدارة في تحجيم العملات الورقية، لكن العملات الرقمية (البيتكوين وأخواتها) من شأنها أن تقضي على المجهود الضخم الذي قامت به الحكومة الصينية، وتحد من مقدرتها على مراقبة مواطنيها ومتابعة حركة انتقال الأموال، ومن هنا يمكن فهم قلق الصين وحساسيتها من العملات الرقمية.
أخيراً بقي أن نقول إن صراع النفوذ والهيمنة بين القطبين الامريكي والصيني سيكون له بعض التأثير على مستقبل العملات الرقمية، ليس من حيث القبول بجوهرها، لكن من باب التنافس ودعم العملات المطروحة، فلن تقبل الصين ببالبيتكوين فهي ترى فيه سلعة غربية ليس إلا، لذا فإننا غالباً ما نشهد ميلاد عملة إلكترونية جديدة تكون للحكومة الصينية وبها شكل من أشكال السيطرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.