منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تتوالى الهجمات التي ينفذها فرع تنظيم الدولة الإسلامية بأفغانستان "ولاية خراسان" ضد أهداف متنوعة، بداية من مساجد الشيعة الهزارة وصولاً إلى استهداف تجمع للعزاء أقيم بمناسبة وفاة والدة المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد. وعادة ما تغطي وسائل الإعلام هجمات التنظيم، لكن نادراً ما تتناول نقاطاً مهمة مثل المكونات البشرية لعناصره، ومناطق تواجده، وآلية عمله، وهو ما يساهم في استشراف مستقبله.
البعد القندهاري لطالبان
ترتبط نشأة تنظيم ولاية خراسان ببعض المعطيات التي واكبت نشأة وبنية حركة طالبان ذاتها، فطالبان نشأت من رحم المدارس الدينية الديوبندية التي تتمسك بالمذهب الحنفي فقهاً والماتريدية في باب العقائد. فعقب سقوط النظام الشيوعي عام 1992 اندلعت حرب أهلية اعتزلها أغلب الملالي، ولكن مع انتشار القتل والفوضى وفرض الإتاوات، تداعى عدد من طلبة العلوم الدينية لمواجهة تلك الظواهر السلبية، وبرز من بينهم الملا "محمد عمر" الذي نجح في السيطرة رفقة مقاتليه على قندهار في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، ومن ثم تواصل معه العديد من الملالي من مناطق مختلفة للالتحاق به، فتمدد حجم حركة طالبان إلى أن تمكنت من دخول العاصمة كابول في سبتمبر/أيلول 1996.
تأثرت طالبان بأصل نشأتها في بيئة قندهار ذات البعد القبلي، وهو ما انعكس على فترة حكم الحركة الأولى (1996-2001)، فلم يصل أي شخص من خارج قندهار إلى المناصب العليا بالحكومة. وحتى بعد الغزو الأمريكي كان قائد الحركة الملا عمر ونائباه برادر وعبيد الله من قندهار، ولم يتغير هذا الأمر سوى في فترة إمارة الملا أختر منصور الذي عين لأول مرة في عام 2015 نائباً للأمير من خارج قندهار، وهو سراج الدين حقاني من شرق أفغانستان.
موزاييك شرق أفغانستان، ونشأة داعش خراسان
تواجدت العديد من المجموعات المسلحة في شرق أفغانستان بعضها تابع لطالبان والبعض الآخر مستقل، فضلاً عن مجموعات غير أفغانية وجدت مأوى لها بالمنطقة مثل الحركة الإسلامية الأوزبكية، والحزب التركستاني، فضلاً عن حركة طالبان باكستان التي تأسست في المناطق الحدودية الباكستانية الأفغانية، لكن عقب عمليات الاستهداف الأمريكية والباكستانية المتتالية لقادتها مثل (نك محمد وعبدالله محسود وبيت الله محسود وحكيم الله محسود) انقسمت إلى ما لا يقل عن 8 فصائل انخرطت في صراعات دامية، ثم لجأ الآلاف من أفرادها إلى شرق أفغانستان مع شن الجيش الباكستاني لعمليات مكثفة ضدهم في المناطق الحدودية. كذلك اتصف شرق أفغانستان بخصوصية تتمثل في وجود مؤثر للتيار السلفي الذي نما في ولاية كُنر على يد الشيخ جميل الرحمن (1939-1992) مؤسس جماعة "الدعوة إلى القرآن والسنة".
وبحسب مذكرات الملا "عبد الحي مطمئن" الناطق السابق باسم الملا عمر، ففي بداية ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا "داعش" اعتبرته قيادة طالبان رد فعل ضد السياسات الغربية في المنطقة. ثم مع رصد طالبان تأسيس مجموعات تابعة لداعش شرق أفغانستان، أرسل أمير طالبان الملا "أختر منصور" رسالة ودودة إلى زعيم داعش البغدادي يدعوه فيها إلى تجنب إحداث انقسام في أفغانستان بتأسيس فرع لتنظيمه، وهي الرسالة التي نشرت أبرز مضامينها لاحقاً مجلة "الصمود" الصادرة عن طالبان في أغسطس/آب 2018، وأوردت أنها احتوت تنبيهاً بأن العناصر المنضمة إلى داعش بأفغانستان هم أشخاص معروفون بالغلو وتورطوا في عدد من جرائم الاختطاف وقطع الطرق، ولذا طردتهم طالبان من صفوفها. وجاء رد البغدادي على لسان متحدثه الرسمي العدناني بإعلان تأسيس فرع للتنظيم بأفغانستان بالتوازي مع تصريحه بأنه بعد إعلان التنظيم للخلافة بطلت شرعية الجماعات والتنظيمات الأخرى، ومضيفاً: (سنفرق الجماعات ونشق صفوف التنظيمات). فبدأ النزاع بين الطرفين. فممن تكونت ولاية خراسان؟
نجد الإجابة على السؤال المذكور في تقارير "فريق الدعم التحليلي ورصد تنفيذ الجزاءات" التابع للأمم المتحدة، فضلاً عن مذكرات الملا عبدالحي مطمئن.
في البداية أعلن أحد زعماء جماعة "الدعوة إلى القرآن والسنة"، ويُدعى مسلم دوست مبايعته لداعش قبل أن يسحب تأييده بعد عدة سنوات، لكنه مهد الطريق لتأسيس تواجد لعناصرها في ولاية ننجرهار، ثم عُين "حافظ سعيد" كأول أمير لولاية خراسان، وانضم له "شهيد الله شاهد" المتحدث السابق باسم طالبان باكستان، وهو من أتباع المدرسة السلفية، وهو ما أعطى بعداً فكرياً ومنهجياً للخلاف مع طالبان، فضلاً عن البعد المناطقي. كما انحاز إلى تلك المجموعة عدد من عناصر طالبان ممن عاقبتهم الحركة لمخالفات ارتكبوها، مثل مجموعة القائد الطالباني الأوزبكي العرق قاري حكمت التي انحازت لداعش في عام 2017.
وفي بغلان انضم بعض مقاتلي الحزب الإسلامي الذي أسسه "حكمتيار" إلى داعش لرفضهم اتفاق المصالحة بين حكمتيار والحكومة، فيما اتهمت طالبان "معصوم ستانيكزاي" رئيس مديرية الأمن الوطني بالضلوع في تشجيع عناصر الحزب الإسلامي على الانضمام لداعش بهدف إضعاف طالبان واستنزافها في القتال مع داعش.
وتطور الأمر مع خروج القائد الطالباني "منصور داد الله" من السجن بباكستان، وانتقاله في عام 2015 إلى ولاية زابول في ظل اتهامه لقيادة طالبان بتصفية شقيقه الملا "داد الله" أحد أبرز قادة طالبان العسكريين، وقد استغل منصور إعلان طالبان رسمياً في 2015 وفاة الملا عمر ليعلن انشقاقه ودعمه لداعش حيث التفت حوله مجموعة من المقاتلين الأوزبك، ونفذوا عمليات خطف لبعض نساء الشيعة الهزارة، لكن لما فشلت المفاوضات للإفراج عنهن شنت طالبان عليهم هجوما أسفر عن مقتل الملا منصور في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وفي تلك الآونة أعلنت مجموعات من الحركة الإسلامية الأوزبكية في 2015 مبايعتها لتنظيم الدولة، وفي المجمل قدرت تقارير الأمم المتحدة عدد عناصر تنظيم ولاية خراسان بما يتراوح من 2000 إلى 4000 عنصر أغلبهم من الباكستانيين البشتون والأوزبك.
هجمات مضادة
في البداية حاولت طالبان تفكيك مجموعات التنظيم شرق أفغانستان دون إراقة دماء، ولكن في ظل مقاومتهم بدأ القتال بين الطرفين، وفي ظل ضغط طالبان عسكرياً نزح بعض مقاتلي ولاية خراسان من ننجرهار إلى ولايتي كُنر ونورستان المجاورتين بينما نجحت طالبان في القضاء على تواجد التنظيم بجوزجان شمال أفغانستان، وهو ما دفع 250 من عناصر التنظيم بجوزجان و 1400 آخرين بشرق أفغانستان إلى الاستسلام للقوات الحكومية في عام 2018 هرباً من عمليات طالبان العسكرية ضد معاقلهم.
أما القوات الأمريكية فمن جهتها استهدفت قيادات التنظيم بعمليات نوعية، فقتلت في يوليو/تموز 2016 حافظ سعيد أول قائد للتنظيم بغارة جوية ثم قتلت الزعيم التالي عبد الحسيب في مداهمة للقوات الخاصة في 27 أبريل/نيسان 2017. ثم قُتل خلفهما الباجوري في يوليو/تموز 2017، في حين قبضت القوات الحكومية على القائد الرابع أبو عمر الخراساني في عام 2018 بعد إقالته من قيادة التنظيم ثم اُعتقل قائد التنظيم الخامس أسلم فاروقي في 2020. وهو ما يشير إلى ضعف قدرات التنظيم على حماية قادته، ووجود اختراقات عميقة تسهل تحديد أماكنهم في مدة وجيزة من توليهم للقيادة.
ومع تعرض معاقل التنظيم في شرق أفغانستان لهجمات طالبانية قوية أفقدته الكثير من نفوذه، عمل على تكوين خلايا نائمة نشرها في العديد من المناطق الأفغانية بحيث تأخذ توجيهاتها من قيادته في كُنر وننجرهار، وهي خلايا تستهدف عادة أهدافاً هشة صعبة الحماية مثل مساجد الشيعة وتجمعاتهم في حفلات الزفاف والجنازات، فضلاً عن المستشفيات العسكرية وأفراد طالبان.
مستقبل تنظيم ولاية خراسان
في ظل الانسحاب الأمريكي يرجح أن يعمل تنظيم ولاية خراسان على إعادة بناء صفوفه حيث تمثل أفغانستان بجغرافيتها الوعرة فرصة له لإعادة التموضع وإثبات الوجود. كما أنه سيكون بمثابة المغناطيس للقوى الخارجية الراغبة في توظيفه لاستنزاف طالبان وإثبات فشلها في إدارة الدولة، وهو أمر من السهل تنفيذه في ظل البنية التنظيمية المهلهلة لمجموعات التنظيم، ووجود العديد من المجموعات غير الأفغانية بصفوفه، فضلاً عن وجود شرائح متضررة من طالبان في مقدمتها عناصر الاستخبارات والجيش بالحكومة السابقة، حيث رُصد انضمام بعض أفرادها للتنظيم مؤخراً في شرق البلاد، وفقاً لما نشرته نيويورك تايمز منذ عدة أيام.
وبالمقابل توجد أمام طالبان فرص تساعدها على تفكيك التنظيم تتمثل في معرفتها بأبرز مجموعات التنظيم في ظل أن أغلبهم من المنشقين أو الحلفاء السابقين مما يسهل نسبياً الوصول لهم، فضلاً عن محدودية تأثر المجتمع الأفغاني بأيديولوجية داعش ذات المرجعية السلفية، وهنا يأتي دور زعماء القبائل والعلماء والدعاة في تفكيك الخطاب الأيديولوجي لداعش وإقناع عناصره بأفغانستان بتغيير خياراتهم. وفي المحصلة يتوقع أن تستمر هجمات التنظيم فترة من الوقت بأفغانستان قبل أن يندثر على وقع تفكيك خلاياه الأمنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.