في وقت وجيز، بدأت تتضح ملامح السجن الكبير (مجمع السجون) بمنطقة سجون وادي النطرون، والدواعي التي أدت إلى تسريع عملية إنشائه، والتي لم تستغرق سوى 10 أشهر، وهي في كل الأحوال تمثل صورة قاتمةً متكررة للرأسمالية المتوحشة، التي فرضتها دولة العسكر، والتي تنحي كل ما يمت للإنسان وحقوقه بصلة جانباً، من أجل مكاسب آنية، تبتلعها كما ابتلعت السلطة والبلاد وأراضيها ومشاريعها، ومليارات الدولارات التي استدانتها منذ أحداث انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.
ليست فرصة للحياة
لعدة أيام منذ الكشف عنه، ظلت المعلومات شحيحة، عن سبب بناء مجمع السجون، افترضت خلالها أن الرئيس السيسي ربما يرغب قبل انتقاله إلى العاصمة الإدارية، في وضع معارضيه الذين يعتبرهم الأكثر خطورة، في مقبرة مجمع سجون مشدد، ويغلق عليهم باب الرحمة والعفو إلى الأبد.
كما افترضت أن السجن سيصبح بديلاً لسجون وليمان طرة، لأهداف اقتصادية بحتة، بسبب موقعهم المميز المطل على نهر النيل، وهي الفكرة التي سبق وطرحها الملياردير نجيب ساويرس منذ عدة سنوات، واتضح أنها بيت القصيد.
فمع الإعلان عن بناء مجمع السجون الجديد أعلنت الداخلية عن إخلاء ١٢ سجناً، تمثل 25% من إجمالي عدد السجون العمومية في مصر، ومعظمها يقع في مناطق حيوية ومواقع متميزة بالمحافظات، وهي: (استئناف القاهرة- ليمان طرة- القاهرة بطرة- بنها- الإسكندرية- طنطا العمومي- المنصورة- شبين الكوم- الزقازيق- دمنهور القديم- معسكر العمل بالبحيرة- المنيا العمومي).
ستوفر أراضي تلك السجون عشرات أو ربما مئات المليارات، ومن ناحية أخرى سيتم تهجير السجناء من العمران، إلى الصحاري القاحلة، ووضع أسرهم وأهاليهم في ابتلاء جديد، وفصل آخر من فصول المشقة والعذاب، يتجدد مع كل زيارة، بما يلبي رغبة متوحشة لدى النظام في تكريس المزيد من المعاناة ضد معارضيه.
استراتيجية بناء سجون جديدة
كما أوضحت دراسة أعدّها المعهد المصري للدراسات في يوليو/تموز 2021، أن التوجه الهائل لبناء سجون إضافية "يعكس واقع تضاعف معدل الاعتقالات السياسية والجنائية عنه قبل بضع سنوات، والزيادة الهائلة في عدد المحتجزين في سجون أقسام الشرطة التي بلغت أقصى طاقتها".
ووفق المعايير التي يعتمدها النظام، يجب بناء سجون جديدة بدلاً من خفض عدد الاعتقالات.
وأضافت الدراسة نفسها أن بناء سجون مركزية كبيرة أرخص وأسرع وأكثر أماناً من أقسام الشرطة التي تعرضت لهجمات خلال ثورة عام 2011، وهو ما يمكن أن يتكرر.
لذا لم يكن من المستغرب أن تكون ردود أفعال النشطاء والمغردين الساخرة، عقب تصريحات السيسي، عن إيمانه بحرية الرأي والتي أطلقها يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، تشير إلى رغبته في ملء السجن الكبير.
إن سياسة التوسع في بناء السجون وسط تدهور الحالة الحقوقية، بمثابة معيار لأي ديكتاتورية تعادي حقوق الإنسان وتعظم القمع.
ويبلغ عدد السجون في مصر 79 سجناً:
- منها 36 سجناً بعد ثورة يناير.
- 29 في عهد السيسي وحده، بخلاف المجمعات الجديدة التي أعلن عنها!
- إضافة إلى 382 مقر احتجاز داخل أقسام ومراكز الشرطة والسجون السرية في معسكرات قوات الأمن.
ما يجعل السجون تمتد وتتسع، لتبتلع العمران وتتحول البلاد لسجن كبير بلسان الحال والمقال، لدرجة أن النائب البرلماني، ممدوح مقلد احتفى العام الماضي، بقرب افتتاح سجن في محافظته سوهاج.
برومو أسطوري
الدعاية شبه الأسطورية للسجن الكبير أو مجمع السجون، وأغنية "فرصة للحياة" التي غناها مدحت صالح ومي فاروق، والبرومو المبهر، والصور المزيفة عن حياة السجناء ورغد العيش وممارسة الفنون، والتنظيم والنظافة، وكأنك في قصر الاتحادية، تدحضها صور الأطفال في المدارس وهم يتراصون صفوفاً بالعشرات على الأرض، في شكل مزرٍ، يعبر عن حقيقة الأوضاع في بلاد بضاعتها الخداع والتزييف.
وقد رصدت "كوميتي فور جستس" 5814 انتهاكاً داخل السجون ومقار الاحتجاز منذ يناير إلى سبتمبر الماضي؛ منها 42 حالة وفاة داخل مقار الاحتجاز؛ أكثرها بسبب الحرمان من الرعاية الصحية، كما تم رصد انتشار محاولات الإضراب والانتحار حرقاً -مؤخراً- بين السجناء السياسيين في سجن العقرب سيئ السمعة؛ بسبب سوء المعاملة والحرمان من الزيارات لسنوات طويلة.. فضلاً عن اعتقال 3436 متهماً بإذاعة أخبار كاذبة.
الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان
في ذكرى أحداث 11 سبتمبر/أيلول، دشن الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، ليذكر العالم بالأحداث المؤسفة وما تلاها من عشرية سوداء، أطلقت فيها الإدارات الأمريكية المتعاقبة يدها للنيل من حقوق الإنسان حول العالم، ما أدى لتسريع الاتجاهات الاستبدادية، في المشرق العربي، وبعض المناطق حول العالم.
وكأن اعتقال عشرات الآلاف سيحمي الغرب من تكرار مثل هذه الجرائم والأحداث، رغم أن معظم المعتقلين وسطيون لا يؤمنون أساساً بالعنف، أو كأنه يقول: نحن في الانتهاكات سواء!
ويعتقد البعض أن السيسي وافق على الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان من الأساس، على مضض.
والدليل أنه في الوقت الذي كان ينتظر فيه عشرات الآلاف من المعتقلين، بهذه المناسبة، أي إشارة عن انفراجة حقوقية، تسمح لهم بالتحرر من القيود التي غلت أيديهم على مدى سنوات، فاجأ الرئيس مواطنيه ومعارضيه، في منتصف سبتمبر/أيلول 2021، بالحديث عن السجن الكبير.
وتضمنت البشارة افتتاح أكبر مجمع سجون، مساحةً وطاقة استيعابية، "على الطراز الأمريكي".
وأضاف الرئيس بحماسته المعهودة: "سيوفر مجمع السجون مواصفات اعتقال محترمة.. كما سيضم محاكم ومكتبة، وأكبر مستشفى، وحدائق، ويتضمن أنشطة زراعية وصناعية".
بعدها بأيام قليلة، كان الناشط علاء عبد الفتاح يساوم إدارة سجن طرة، على أن تسمح له باقتناء رواية أو كتاب -من مكتبة السجن- تحددها هي، مقابل أن يتوقف عن المطالبة بنقله لسجن آخر، لكنه فشل في مسعاه!
الحديث التقليدي عن السجن الكبير لا يخرج عن أفكار الرئيس التي تسابق الزمن، وتدمن وتمجد الأحجام والمجسمات، طولاً وعرضاً والمسميات، مقابل إدراكه للقيم.
رئيس الأرقام القياسية
الرئيس المولع بتحطيم الأرقام القياسية، لا يتوقف عن بناء قصور رئاسية مشيدة، ويتحرك بعزم في الانتهاء من العاصمة الإدارية، التي ستضم أطول برج في إفريقيا، وأطول ساري علم، وبات يمتلك طائرة رئاسية هي الأكثر كلفة في العالم، والتي يسميها البعض "قصر السماء"، إضافة إلى أكبر مسجد، وأضخم كاتدرائية، ما يطرح شكوكاً حول إصابته بجنون العظمة.
الرئيس ظهرت له صور وهو ينظر إلى ماكيتات ورسوم السجن بانبهار لا يقل عن نبرة حديثه، ولا تتناسب مع الحديث عن سجن، يُفترض أن يُزج فيه بعشرات الآلاف من معارضيه الأبرياء، الذين لم تتوافر لهم فرص محاكمة عادلة، وإنما سُجنوا بقرار سياسي.
أكبر سجن في العالم
السجن الذي وصفته أبواق النظام بأكبر سجن في العالم، واحد من ضمن 8 سجون أعلن عنها السيسي.
ويقع على مساحة تقدر بأكثر من 200 فدان.. ويحيط بالمجمع سور خارجي مزدوج على هيئة مربع يبلغ طول ضلعه 1300 متر. ويرتفع السور الخارجي لـ 10 أمتار. وبه 200 برج مراقبة. ويسع 40 ألف سجين.
كما أنه يشبه القلاع الحصينة ببوابات فرعونية! إمعاناً بالشعور بالعظمة والإنجاز.
وهو كالمقبرة لن يخرج منه السجين أبداً، ولن يتنقل في سيارات الترحيلات؛ إذ يحتوي على مرافق قضائية تُجرى بها جلسات التجديد والمحاكمات!
وكأن مصر القمعية التي تلاشت ملامحها وباتت في صحف الغرب عنواناً لسجن كبير، بزنازين موحشة تحتاج لبناء مزيد من السجون!
فبينما يتحدث العالم المتحضر عن معاني الحرية وإسهاماتها بفخر، تزرع السجون في بلادنا وكأنها محميات أشجار، وبينما تتحدث القيم الإنسانية عن معاني الإحياء، تنشأ أجيال كاملة فيما يقارب العقد على معاناة زيارات السجون، وصور التغييب والموت.
وأنا أقرأ عن معاناة الأبرياء في السجون أستحضر صورة سجن أو حصن الباستيل، رمز الطغيان، المخصص لأعداء الملك، بأبراجه الثمانية التي تبلغ 30 متراً، وهو يتم تدميره وتحويله إلى ركام وذكرى بائسة.
هذا هو الإنجاز الحقيقي، لمزرعة الحيوان والقرون الوسطى التي ما زلنا نحيا فيها، ولم نبرحها مُؤكداً حتى اللحظة، لا لدغة سجن العقرب ولا مقابر الموت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.