منذ حوالي أسبوع، فجراً، اتّخذ الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي في السودان، حزمة إجراءات مضادة للمسار الانتقالي المتفق عليه بين الجيش والمدنيين، ومضادة لمبادئ ثورة ديسمبر/كانون الأول التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، خلال إحدى أبرز ثورات الموجة الثانية من الربيع العربي.
أبرز تلك الإجراءات، التي وُصفت بـ"الانقلابية" من معظم حكومات ووكالات الأنباء في العالم كانت قطع الاتصالات عن معظم جهات البلاد، لاسيما المناطق المركزية، واعتقال رؤوس قيادات الحركة المدنية التي كانت تشاطر العسكر السلطات في السودان، وصولاً إلى استخدام قدر من القوة النارية ضد المظاهرات المناهضة لتلك الإجراءات في وقت لاحق.
لأسباب كثيرة، على رأسها أن السودان يعد ساحة استقطاب أساسية للقوى الإقليمية الكبرى في المنطقة، مصر والإمارات والسعودية وتركيا وإيران وإسرائيل، لهذه الدول جميعاً مصالح ونفوذ بأشكال متنوعة في الخرطوم. إلى جانب أن لبعض تلك الدول أيادي في انقلابات عسكرية، بعضها نجح وبعضها لم يكتمل، في عدد من دول المنطقة مؤخراً، ذهب البعض إلى ترجيح أن البرهان لم يكن ليقدم على تلك الخطوة لولا حصوله على الضوء الأخضر من المحور الخليجي الداعم للانقلابات العسكرية، والذي تعد مصر بقوتها العسكرية ونفوذها الإقليمي أحد أبرز محاوره.
في هذه المقالة نتساءل عما إذا كان للمؤسسة العسكرية المصرية دور في الانقلاب السوداني الأخير أم لا، دون تحيز أو آراء مسبقة، فقط سنحاول إلقاء الضوء على ما قد يعد شواهد، التي قد تُرجح بتواتُرها علم وتأييد النظام المصري لتلك الحركة الخطيرة.
التعاون العسكري غير المتعلق بسد النهضة
من المثمر والمطلوب دائماً أن يكون هناك تنسيق عسكري عالي المستوى بين القاهرة والخرطوم، وذلك نظراً لاعتبارات كثيرة، على رأسها قطع الطريق على بعض القوى الإقليمية التي لا تريد فقط أن تكون لها مصالح طبيعية في السودان، ولكن أن تبتلع السودان، بما يمثل تهديداً دائماً على القاهرة من الناحية الجنوبية.
وفي الآونة الأخيرة، نمت الدوافع الداعمة لرفع مستوى ذلك التنسيق المرجو بين الطرفين، بالأخذ في الاعتبار احتمالات تعثر الحلول السلمية لأزمة سد النهضة، وتلويح القاهرة رسمياً بالحل العسكري، وتوحيد الخطاب الفني من الدولتين للحديث عن الآثار السلبية المترتبة جراء هذا المشروع "على دولتي المصب".
في هذا السياق، شهدنا جميعاً وأشدنا برفع وتيرة التنسيق العملياتي بين الجانبين المصري والسوداني، إلى حدّ تدشين عدد من المناورات الجوية المشتركة بالتبادل في البلدين، والتي لم يكن لها تفسير إلا رفع مستوى التهديد والتحذير الموجّه لأديس أبابا، حال تعثُّر المفاوضات الثلاثية حول السد والإخفاق في الوصول إلى ما تسعى إليه مصر والسودان، وهو الاتفاق القانوني الملزم العادل لمصلحة الدول الثلاث، بخصوص قواعد التشغيل والملء والآثار البيئية وقواعد السلامة الخاصة بالمشروع.
بدأت تلك المناورات بتدريبات جوية في الأراضي السودانية، حمل بعضها أسماء متعلقة بشكل واضح بانعقاد هذه الإجراءات من أجل حماية حصص دولتي المصب من نهر النيل، وتطورت إلى أن وصلت إلى مشاركة القوات الخاصة، الصاعقة والمظلات، من الجانبين، اتساقاً مع التحذير الثاني الذي أطلقه الرئيس المصري عن الخيارات "المفتوحة"، وضرورة تفهّم الجانب الآخر أنه ليس بعيداً عن القدرات المصرية.
ولكن الملاحظ أن ذلك التعاون العسكري بين الطرفين اتخذ أبعاداً مختلفة، لا يمكن تصنيفها ووضعها إلا تحت عناوين رفع التنسيق العسكري بين البلدين وتوطيد العلاقات العسكرية، بعيداً عن ملف سد النهضة، بحيث تصبح العلاقات ذات طابع خاص بين المؤسستين العسكريتين، ولا تخلو من التنسيق "الأمني" الذي يختلف في هذا السياق عن التنسيق "العسكري".
سأذكرُ بعض الأمثلة الكاشفة عن أن العلاقات في هذا الجانب كانت تتم في الفترة الأخيرة بين المؤسستين بشكل خاص، لا بين الدولتين كما ينبغي، مع الأخذ في الاعتبار أن المؤسسة العسكرية في السودان تستفردُ وحدها بتلك الأمور، بموجب الاتفاقات الأخيرة التي نقضتها، دون أدنى مشاركة من التيار المدني، الذي يفتقد بدوره أيضاً إلى كثير من المفردات والأساسيات الخاصة بالأمور العسكرية: ماذا نشتري؟ بأي ثمن؟ من أي دولة؟ ما حدود التنسيق مع الدول الأخرى؟ كيف نقوّي المؤسسة العسكرية دون أن تطغى على المكون المدني؟ أي أن الجيش السوداني قبل تلك الإجراءات الاستثنائية كان يتصرف بحرية، بمعزل عن التيار المدني، لأسباب كثيرة، كما كانت الحال في مصر خلال العام الذي قضاه الرئيس الراحل محمد مرسي في السلطة.
السلطة المدنية المنتخبة آنذاك في مصر، وهي حديثة عهد بهذا الموقع، لم تكن مطلعة على أدبيات وقوانين وتفاصيل تسيير الأمور في المؤسسة العسكرية، ما جعل الجيش يتحرك داخلياً خلال العام الواصل بين يونيو/حزيران 2012 ويونيو 2013، بمعزل عن الترتيبات التي كان يطمح إليها الرئيس الراحل محمد مرسي، بخصوص دور الجيش وعقيدته العسكرية، وتنويع مصادر السلاح، وتغيير خارطة التحالفات. كما كان الجيش في مصر يُبدي على الفور غضباً شديداً من أي تصرف لا يرضيه من السلطة المدنية، ويعتبره تعدياً على اختصاصاته التي لا يفهمها المدنيون، مستغلاً إرث الحساسية والتخوين المرتبط بهذا الفصيل من المدنيين.
ما يهم، أنه تحت ذريعة التنسيق المشترك من أجل الاستعداد إلى أي خيارات خشنة في ملف سد النهضة، أخذ الجانبان يعملان على تشعيب العلاقات الثنائية بينهما على نحو يتجاوز ذلك الملف، فتارة تجد قائد قوات الدفاع الجوي السوداني في الإسماعيلية لتفقّد مناورات للجيش الثاني الميداني المصري، وتارة أخرى تجد زيارات متكررة من مؤسسة الصناعات الحربية السودانية، على مستويات غير مسبوقة، إلى نظيرتها في مصر.
كما أخذ التنسيق بين الطرفين يتشعبُ إلى حد الوصول إلى مجالات تسليم المطلوبين أمنياً، وكل المطلوبين للسلطات المصرية من الجانب السوداني مرتبطون بخصوم النظام المصري السياسيين، سواء من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، أو من الذين انضموا إلى جماعات مسلحة صغيرة وصلت إلى السودان، وصولاً إلى التنسيق العسكري الرسمي والمعلن بين الطرفين من أجل "مكافحة الإرهاب".
ما أود قوله بوضوح هنا، هو أن التعاون بين المؤسسة العسكرية المصرية وبين نظيرتها السودانية اتخذ طابعاً حميمياً خاصاً، إن جاز القول، ليتشعبَ في كل المجالات، التقنية والسياسية، منذ الإطاحة بالبشير، ثم تبلور الاتفاق السياسي بين الجيش السوداني والقوى المدنية، متخذاً ذريعة التنسيق المشترك للتصدي لخطر سد النهضة، وصولاً إلى التنسيق الاستخباري والأمني، حتى إن الجيش المصري بأكمله تقريباً على المستوى القيادي كان يحطّ الرحال في الأراضي السودانية بين الحين والآخر في الشهور الأخيرة.
تنسيق السياسات العامة
بالإضافة إلى ما سبق من تنسيق شامل على المستوى العسكري، فقد بدا أن هناك إعجاباً سودانياً، من المجلس العسكري الحاكم تحديداً، بتجربة السيسي في إدارة الشؤون المصرية بعد الانقلاب العسكري، يوليو/تموز 2013.
تجلّى ذلك الإعجاب رمزياً على نحو مكثف في مشهد تقديم التحية العسكرية من الفريق ركن عبد الفتاح البرهان، مرتدياً البدلة العسكرية، إلى نظيره عبد الفتاح السيسي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر، منتصف عام 2019.
طوال الشهور الماضية، كانت الطائرات المروحية المصرية التابعة للجيش المصري تُقلع بانتظام من القواعد العسكرية المصرية إلى المطارات السودانية، لتوفير النظام المصري الدعم الإنساني اللازم للشعب السوداني في أزماته المختلفة.
بالرغم من الآثار السلبية المترتبة جراء تلك الخطوة على الأمن القومي المصري في الجنوب على المدى البعيد، فإن السيسي كان أحد أبرز الداعمين علناً للتطبيع بين دولة الاحتلال وبين السودان، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثر المتحمسين لتلك الخطوة سودانياً كانت المؤسسة العسكرية.
إذ يرى النظام المصري أن دخول دولة الاحتلال الإسرائيلي أمنياً إلى تلك المنطقة، بالرغم من توابعه غير الطيبة على مصر الدولة والمجتمع، فإنه سيكون مفيداً في مساحة توظيف الخبرات الأمنية الإسرائيلية لمحاربة التيارات الإسلامية، سواء من خصوم النظام المصري المباشرين مثل جماعة الإخوان المسلمين، أو في الترتيبات الأمنية المتعلقة بمنع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حركة حماس عبر البحر الأحمر.
وقد رأينا جميعاً إشادة الصحافة الإسرائيلية بتدشين قاعدة "برنيس الجو-بحرية" جنوب الأراضي المصرية، والتي يعد منع تدفق الأسلحة الإيرانية إلى المقاومة الفلسطينية أحد أبرز أهدافها، الأمر الذي وجد صداه أيضاً لدى المقاومة التي انتقدت ذلك الغرض صراحة في المادة الاستقصائية المصورة على قناة الجزيرة: "الصفقة والسلاح"، وهي النوايا التي كُللت فعلاً بتشذيب الوجود الحمساوي في السودان بشكل رسمي، من قبل الأجهزة الأمنية السودانية قبل وقت قصير من الانقلاب.
وبالتبعية، كان هناك تنسيق معلن بين الطرفين، النظام المصري والمجلس العسكري في السودان، من أجل ترويج حتمية اقتداء الجارة الجنوبية بـ"التجربة الاقتصادية الناجحة" لمصر خلال الأعوام الأخيرة، والتي يحاول النظام ترويجها في كثير من البلدان العربية غير النفطية، خاصة تلك التي تعاني من مشكلات اقتصادية هيكلية، ويوجد بها نفوذ سياسي إسلامي، ومحاولة انعتاق من الحكم العسكري والديكتاتوري.
تقوم تلك التجربة التي يسعى النظام إلى ترويجها عربياً، والتي أثنت عليها السلطات السودانية قبل الانقلاب العسكري الأخير أكثر من مرة، على توظيف السياسي من أجل الاقتصادي تحت ذرائع الضرورة، على غرار التوسع في التطبيع الشامل مع دولة الاحتلال، ومحاربة الإرهاب الذي يتضمن الإسلام السياسي، وتقوية الجيوش القومية، والاستثمار في البنية التحتية، ورفع الدعم عن الوقود والعملة الوطنية، وربط الاقتصاد المحلي بالمصالح الخارجية عبر التوسع في الديون.
لحظة الانقلاب
هذه المحاور السابقة تخص التنسيق طويل المدى نسبياً بين المؤسستين العسكرية المصرية والسودانية بشكل خاص تقنياً وأمنياً، ثم تنسيق السياسات على أرض الواقع، ولكن -وهو الأهم- هل ظهرت أيادي النظام المصري في الانقلاب السوداني الأخير؟!
في البداية، فقد كانت هناك لحظة تنفيذ واتخاذ إجراءات الانقلاب والاعتقال وقطع الاتصالات والانتشار العسكري، قوات عسكرية نظامية سودانية في الأراضي المصرية تقوم بالتدريب مع الجيش المصري.
جزء من القوات السودانية كان لحظة الانقلاب يتدرب مع نظيرته المصرية في إحدى القواعد العسكرية في الاتجاه الشمال الغربي، ضمن مهام: "التنسيق المشترك لمحاربة الإرهاب". الجدير بالذكر أن معظم التدريبات الدولية الخاصة بالتنسيق لأجل ذلك الغرض تُجرى من الجيش المصري في هذا النطاق الاستراتيجي، بما في ذلك تلك التي تُعقد مع قوات عسكرية من دول الساحل والصحراء. وقد استمرت التدريبات المشتركة بين الطرفين دون أي تغيير، بالرغم مما يجري في السودان.
انعكس القبول الهادئ المصري للانقلاب العسكري في السودان على المستوى السياسي، فقد خرج بيان الخارجية المصرية إزاء التطورات في السودان باهتاً، بلا طعم أو لون أو موقف، في مباركة ضمنية للتحركات التي قام بها البرهان وقوات التدخل السريع ضد التيار المدني.
هل يمكن اعتبار ذلك البيان نصاً دبلوماسياً تقليدياً يتسق مع المواقف المصرية عموماً إزاء قضايا الإقليم؟ في الحقيقة لا، لا يمكن ذلك أبداً، فمن جهة فقد خرجت بيانات معظم الدول واضحة في شجب هذه التحركات، ووصفها بالانقلاب، والتلويح بإجراءات عقابية، بما في ذلك بيانات الولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى.
كما أن الدبلوماسية المصرية في عهد السيسي استطاعت أيضاً اتخاذ مواقف جادة في ملفات أخرى سابقاً، راجع مثلاً كيف أدان النظام المصري، بكل قوة، التحركات الانقلابية ضد الحليف الأردني الملك عبد الله، أو راجِع البيانات الصارمة التي تُصدرها الدبلوماسية المصرية كلَّ حين ضد تركيا، بما في ذلك تلك التي أُطلقت عندما تحركت أنقرة تحركات معينة لم تُعجب النظام المصري في قبرص التركية منذ وقت قريب.
ولقد صرحت السيدة مريم الصادق المهدي، وهي دبلوماسية رفيعة، على علاقات طيبة بالقاهرة، أنها أجرت اتصالات مع عدد من نظرائها من وزراء الخارجية هنا وهناك، إلا أن نظيرها المصري سامح شكري أبى أن يجيب على اتصالاتها خلال الأحداث، فهل ذلك بلا دلالة؟
أمر آخر مهم، هو أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المعروف بتحركاته الفورية وقت الأزمات التي تتعارض مع مصالح نظامه، راجع مثلاً ردات فعله باستقبال خليفة حفتر وعقيلة صالح وقت حدوث أي تطورات في الملف الليبي، أو زياراته إلى اليونان وقبرص خلال أي تصعيد ضد تركيا، هذا الرئيس بدا مرتاحاً، أو على الأقل بدت الأمور على ما يرام خلال أنشطته في الأيام الأخيرة.
الخلاصة
الخلاصة أن هناك علاقة وطيدة بين المؤسسة العسكرية المصرية ونظيرتها السودانية، ووفقاً لكل الشواهد والأدلة، على رأسها الموقف السياسي سلبي غير خشن من التطورات السودانية الأخيرة، يمكن القول أن النظام المصري مرحب بانقلاب البرهان على الأقل.
للموقف الخجول في دعم انقلاب البرهان أسباب كثيرة، على رأسها أنه لا يجب أن يقال إن النظام المصري، في ظل تلك الظروف التي يحاول خلالها تحسين صورته خارجياً، يدعم انقلابات مرفوضة دولياً، كما أن الأمور لم تُحسم على الأرض بعد، وبالتالي فإن النظام المصري يُفضّل أن يُبقي مساحة مناورة، كمُشاهد لا علاقة له بالأوضاع على الأرض، تحسباً لأي جديد قد لا يكون في صالحه مستقبلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.