لا بد من ملاحظة أولية مهمة في البداية، ما سوف يلي في هذا المقال ليس إطلاقاً من باب الدفاع عن وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، الذي نختلف معه أشد الاختلاف في مواقفه السياسية. ما سوف يتبع هو بغض النظر عن الرأي الشخصي لكل منا بمضمون تصريح قرداحي في المقابلة التي أجريت معه في أغسطس/آب الماضي، والتي تم بثها مؤخراً، لاسيما أنه من الأشخاص الذين يستعيرون من حلفائهم (حزب اللّه) الشعور الوهمي بفائض القوة، فيقعون في الغلو والأخطاء الأخلاقية في السياسة.
ربما، لا بل من الأرجح أن يكون تصريح الوزير جورج قرداحي غير مقبول من مسؤول لبناني، حتى لو لم يكن وزيراً عندما أدلى به، وحتى لو لم يكن يعلم أنه سوف يصبح وزيراً وقتها.
كان على من وزّر جورج قرداحي أن ينتبه إلى أنّ الأخير شخصية خلافية بفعل مواقفه السابقة المؤيدة للنظام السوري ومحور ما يسمى "الممانعة"، وهي مواقف مستفزة ليس فقط لدول الخليج، بل لشريحة كبيرة من الشعب اللبناني (وكاتب هذه السطور من هذه الشريحة)، ولبنان في غنى عنها في الوقت الحاضر، لا سيما أنّ لبنان بأمسّ الحاجة إلى دول الخليج في أزمته التي يتخبّط فيها منذ بداية الانهيار الكبير في خريف 2019.
ولكن، بالمقابل، الأكيد أنّ النزعة الفوقية، واللهجة الاستعلائية في التعامل مع لبنان، بسبب تصريح أدلى به أحد الوزراء اللبنانيين الحاليين قبل أن يصبح وزيراً، غير مقبولة جملة وتفصيلاً.
هذه النزعة الاستعلائية، التي دأبت عليها السعودية منذ وصول الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة، لم تأتِ إلا بنتائج عكسية مع دول عربية أخرى، وهي لن تأتي إلا بنتائج عكسية مع لبنان، خصوصاً على المدى الطويل.
فبعد حصار قطر (5 حزيران/يونيو 2017) الذي فشل وأدى إلى ترسيخ علاقة قطر بإيران وتركيا، الدولتين الغريمتين للسعودية، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في الأردن (3 نيسان/أبريل 2021) التي اضطر الأردن على إثرها إلى إعادة علاقاته مع النظام السوري، فإنّ قطع العلاقات مع لبنان سوف يؤدي، في السياق نفسه، إلى مزيد من ارتماء لبنان الرسمي في الحضن الإيراني ومحوره الإقليمي.
وليست هذه المرة الأولى التي تحاول السعودية بقيادة الأمير محمّد بن سلمان الضغط بقوة على لبنان، فقد سبق الأزمة المستجدة بين البلدين بسبب كلام الوزير قرداحي، اعتقال رئيس الوزراء السابق سعد الحريري في خريف 2017، وإجباره على تقديم استقالته، وهو على الأراضي السعودية، من رئاسة الحكومة اللبنانية التي كان يهيمن حزب اللّه وحلفاؤه على قرارها.
أما مرد هذا التهوّر وهذا النزق في التعامل مع باقي الدول العربية، وآخرها لبنان، فلأنه من الصعب على بعض الأنظمة أن تفهم التعددية السياسية أو حرية التعبير، أو أن تحترمها. من المستحيل على الأنظمة الأوتوقراطية أن تتقبّل، أو حتى أن تتصوّر فكرة أنه من الممكن أن يكون للإنسان رأي مختلف عن رأي السلطة، أو أن يكون له الحق في التجرؤ عن التعبير عن رأي مخالف لها.
وفقدان هذه الثقافة الديمقراطية لدى الديكتاتوريات لا ينحصر فقط في علاقتها مع شعوبها (كاغتيال الصحفي جمال خاشقجي في خريف 2018، بالإضافة إلى قضية معتقلي الرأي في السعودية مثلاً)، بل يتعدى هذا الأمر الإطار الداخلي، لينعكس على علاقات هذا النوع من الأنظمة مع باقي الدول، لا سيما الدول الأضعف التي تشاء ظروفها (وأخطاؤها) أن تكون بحاجة لشتى أنواع الدعم (المالي والاقتصادي والنقدي.. إلخ) من قبل هذه الديكتاتوريات.
بكلام آخر، لا تسعى الأنظمة الديكتاتورية لفرض آرائها على شعوبها (وهو شأن داخلي أولاً) فقط، بل تتوخى هذه الأنظمة فرض إملاءاتها على الدول الأخرى أيضاً واستتباعها لإرادتها، لا سيما تلك التي تكون أضعف منها، مستفيدة من حاجة هذه الدول للدعم الذي يمكن هي أن تقدمه.
المفارقة الكبرى أنّ أنظمة كالسعودية والإمارات تحاول تسويق نفسها لدى الغرب كرائدة في الانفتاح والدمقرطة (démocratisation) في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، في حين أنه، في الحقيقة، مجرد تصريح (على فداحته) من وزير في دولة أخرى (لبنان) كفيل بأن يخرج هذه الأنظمة عن طورها، لأنه لا يتوافق مع مواقفها، ولدفعها لمحاولة فرض رأيها، بشتى أنواع الضغوط، على كل الوزراء في دولة أخرى.
المفارقة الأخرى هي أن السعودية، وبدرجة أقل الإمارات، تحاولان إعطاء نفسهما صورة القوة الإقليمية في الشرق الأوسط، لا سيما في وجه إيران. ولكنّ أزمة تصريح الوزير قرداحي تفيد بعكس ذلك. فربما يكون نظام معين، كالسعودية، يمسك بأوراق قوية في تعامله مع دولة أخرى كلبنان الواقع تحت الهيمنة الإيرانية، ولكن الاكيد أنه إذا أصبح هذا النظام يخاف من مجرد تصريح في هذا البلد الآخر، ويطلق حفلات الهستيريا للرد عليه والتعامل معه، فهذا ليس دليلاً على قوته.
اللافت للنظر هو التنسيق العالي، والسرعة والاندفاعة الكبيرتين في الرد الذي جاء موحداً من قبل دول مجلس التعاون الخليجي على مقابلة الوزير قرداحي، بالإضافة إلى جوقة أبواق السعودية في لبنان الذين أخذوا يتناوبون في الإعلام ووسائل التواصل، بإدارة ضابط إيقاع واحد، على المطالبة باستقالة الحكومة استرضاء للسعودية، ضاربين بعرض الحائط النتائج الكارثية التي سوف تتأتى عن هذه الاستقالة في الوقت الحاضر، لا سيما الارتفاع الجنوني في سعر الدولار.
ونظراً لما تقدم، يبدو أنّ مقابلة الوزير قرداحي ليست إلا مجرد ذريعة لهجمة مبيّتة على لبنان، أو بالأحرى لتصفية الحسابات السعودية/الأمريكية مع أدوات الهيمنة الإيرانية في لبنان، ومع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تشكلت بدون رضا سعودي، لا سيما أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو الداعم الرئيسي لتشكيل الحكومة الأخيرة، فشل في إقناع السعوديين بدعم حكومة ميقاتي، إن كان قبل تشكيلها أو خصوصاً بعده.
ولبنان، كالعادة، يدفع الثمن، ثمن غياب سيادة الدولة فيه، وثمن انقساماته، وثمن خياراته الخاطئة، التي حولته كلها إلى ساحة تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية، فأضحى عالقاً بين مطرقة إيران وسندان السعودية.
ولكن، ليس هكذا تورد الإبل، فلن تستعيد الدولة اللبنانية سيادتها عن طريق استبدال الهيمنة الإيرانية على لبنان بإملاءات سعودية تفرض عليها. كما أنّ العروبة ليست الخضوع لإملاءات دول الخليج العربي، وانتماء لبنان العربي لا يكون بالقبول بعجرفة المفوضين السامين لهذه الدول فيه، أو بالسكوت عن تصرفاتهم الاستعلائية وإيجاد التبريرات لها، كما دأب على ذلك كثير من اللبنانيين الذين يدّعون أنهم سياديون والذين سقط قناع السيادية عنهم.
أما داخلياً، فهذه الأزمة مع السعودية فضحت الكثيرين من مدعي السيادة وحب الوطن، وتبيّن أنهم لا يفرقون عن جماعة "الممانعة" وأبواقها إلا بأنهم الوجه الآخر لنفس العملة. فالسيادة لا يمكن أن تكون انتقائية، إذ لا يمكنك أن تكون سيادياً بوجه هيمنة إيران على لبنان، وأن تغض الطرف عن عدم احترام سيادة بلدك بفعل إملاءات السعودية، هذان الأمران لا يستويان.
كما أنه ليس بإمكانك أن تدعي مواجهة غطرسة إيران ومحورها على لبنان وانتهاكها لسيادته، في حين أنّك تعلي مصلحة المحور المقابل -الذي تتبع أنت له- على المصلحة اللبنانية العليا، وتتصرف كمجرد أداة نفوذ لدولة أجنبية أخرى في بلدك، وأن تهرول متزلفاً لإيجاد الأعذار لما تقوم به هذه الدولة المقابلة من هيمنة أو عجرفة بحق لبنان، وكل ذلك على حساب سيادة وحرية واستقلال وعزة وكرامة وطنك.
أما محاولات رأب الصدع، فيجب أن تكون من الجهتين؛ فمن جهة أولى، على المسؤولين اللبنانيين، لا سيما أولئك المنضوين في محور الممانعة أو الذين يدورون في فلكه، أن يعوا خطورة المرحلة داخلياً وخارجياً، وأن يتصرفوا بمسؤولية تجاه حلفاء لبنان الطبيعيين في الخليج العربي، وأن يكونوا أقل عدائية وعجرفة، وأكثر تواضعاً وواقعية في تعاملهم مع هذه الدول، وأن يلتزموا أصول التخاطب الدبلوماسي بين الدول، وأن يبتعدوا عن التصريحات النارية التي من الممكن أن تستفزّ الدول الأخرى، لا سيما أنّ لبنان هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة، وهو الذي بحاجة إلى السعودية وباقي دول الخليج العربي، وليس العكس.
أما من جهة ثانية، فعلى السعودية وحلفائها أن يعوا أنّ التعددية السياسية، التي يبدو أنها غريبة عن مفاهيمهم وأساليب الحكم لديهم، ليست فقط ميزة لبنان، بل هي جوهر وجوده، وذلك رغم كل مساوئ نظامه السياسي، وأنه من غير المعقول أن يفرض على لبنان التخلي عن تعدديته إرضاء لأي دولة أخرى.
وعلى السعودية وأبواقها في لبنان ألا يخلطوا في المفاهيم بين لبنان الكيان، لبنان الدولة، لبنان كشخصية معنوية (personne morale)، من جهة، وبعض المنظمات المسلحة غير الشرعية المؤتمرة بالخارج التي تهيمن على لبنان كواقع طبيعي (réalité physique) وعلى قراره، من جهة أخرى.
كما عليها أن تعي أنّ الشعب اللبناني لا يكنّ إلا كل الود للمملكة، ولا ينسى جميلها على بلده وعلى مغتربيه لديها ولدى كافة دول الخليج، ولكنّه شعب لديه كرامة، وإذا كانت شرائح واسعة منه لا ترضى أن تهان دول الخليج، فمن الأحرى أنه لا يرضى أن تهان دولته وسيادتها من قبل أي دولة أخرى.
وفي الختام، من الجدير تذكير البعض بأنه ربما يكون لبنان بلداً صغيراً وضعيفاً ومنقسماً ومتخلفاً اقتصادياً، ولكن الأكيد أنّه عندما تأسست المملكة العربية السعودية سنة 1932، كان خلف لبنان، منذ ذلك الحين، آلاف السنين من التاريخ، وأنه شهد عبر صفحات تاريخه أزمات كبرى، وحروباً، وهزائم، وشتى أنواع الهيمنة والاحتلال، من القريب ومن العدو، ولكنه عرف في كل مرة كيف يخرج مرفوع الرأس، وكيف يحافظ على كرامته في أحلك الظروف، مفضلاً الموت على الذل، وعرفت رماله المتحركة كيف تبتلع أعتى القوى وأكثرها غطرسة، وكيف تغرق أعنف الأنظمة وجيوشها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.