يوم الإثنين الماضي، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قراراً مدهشاً ومفاجئاً لكلّ الشرائح المتابعة للشأن المصري.. قررت الدولة المصرية ممثلة في رئيس الجمهورية وبصفته، إيقاف العمل بحالة الطوارئ.
ذُيل بيان السيسي بعبارات فخيمةٍ عن تحسن الأحوال الأمنية والسياسية في البلاد، واستقرار الأوضاع، واستحقاق المصريين لتلك اللحظة، التي لم تكن لولا تضحياتهم وبالأخص رجال الجيش والشرطة.
سبب الدهشة والمفاجأة، أن القرار خرج "من الدرج" إلى الرأي العام مرة واحدة، فقبل ذلك، لم يكن يستطيع أحد في الإعلام طرح السؤال عن مشروعية واستمرارية "حالة الاستثناء".. فمصر في حرب على الإرهاب كما نعلم.
سبب آخر، أن حالة الطوارئ كانت أحد الأسباب والمطالب التي ينادي المواطنون، خاصة المعنيين بالسياسة والإعلام والصحافة والقانون، بإلغائها منذ أيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وقبل ذلك.. فهل تذكر السيسي مطالب الثورة وكلمة اللواء محسن الفنجري عن الشهداء؟ صعب!
على أرض الواقع، يعلم المتابعون أن شيئاً جذرياً لم يتغير في الحالة المصرية قبل هذا القرار، فسياساتُ العسكرة والتوسع الأفقي والرأسيّ فيها مستمرة على حالها، وسياسات تغيير الديموغرافية المصرية لأهداف أمنية كما هي، وليس ثمة جديد في أحوال السياسة والأحزاب والتجمعات المدنية، وحتى قبل ساعات من هذا القرار كان السيسي يطالب الأوروبيين بعدم محاولة تطبيق معاييرهم المتقدمة عن حقوق الإنسان في أوضاعنا المتخلفة، لأن لكل مقام مقالاً، كما نعرف.
وقد أكد خبراء القانون، لاحقاً، أن حالة الاستثناء تبقى على حالها، بفضل قوانين أخرى، وما حدث هو محض ترقيع وإزاحة وتلاعب لغوي وقانوني وسياسي.. فلم يفعل السيسي ذلك، في هذا التوقيت؟!
مقتضيات حقبة بايدن
على وجه التقريب، فقد مرّ عام كامل من الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الديمقراطي چو بايدن، الذي بارك السيسي فوزه على حليفه الأسبق دونالد ترامب نهاية العام الماضي، عبر حزمة إفراجات عن معتقلي "موجة سبتمبر/أيلول" الثانية، ضمن خطة إعادة التموضع والتكيف مع هذا المتغير الجديد التي اتخذتها دول عديدة في المنطقة، على رأسها السعودية والإمارات، لتشمل إصلاحات داخلية تخص تعزيز الحقوق الليبرالية، وتخفيف حدة التوترات البينية بين دول الإقليم.
قبل الوصول إلى الحكم، كان بايدن واضحاً فيما يخص سياسة تعامله مع النظام المصري؛ فبأي حال من الأحوال، لن ينعم السيسي بالاستقرار والراحة اللتين كان يشعر بهما في عهد الرئيس الجمهوري السابق، دونالد ترامب.
بمرور الأعوام، علمتنا تجربةُ السياسة في بلادنا أن التأثير الأمريكي على النظام المصري في ذروته، لن يكون جذرياً قاعدياً، يعني لن يقوم الأمريكي، أبداً، بالعمل على إزاحة الديكتاتور العسكري القابع في الاتحادية بالقوة، لاعتبارات كثيرة، أمنية وإستراتيجية وتاريخية، ومع ذلك؛ في أسوأ الأحوال، فإن الضغوط القادمة من واشنطن تؤخذ بعين الاعتبار في القاهرة.
احتاجت إدارة بايدن نحو عام، حتى تُبلور سياسة واضحة نوعاً ما إزاء نظام السيسي، تفي من خلالها بتعهداتها الخاصة بالعمل على تحسين مناخ حقوق الإنسان في مصر، دون الإخلال بالمصالح الأمريكية العميقة مع أجهزة الأمن في مصر، لاسيما الجيش والمخابرات.
أبرز تلك المطالب، كما نعلم؛ هي غلق القضية الخاصة بمنظمات المجتمع المدني في مصر، والإفراج السريع عن عدد من الشخصيات المعينة المحبوسة في مصر والتي تربطها صلاتٌ بالمجتمع المدني الغربي.
لأسباب كثيرة، منها تحفظه على أسلوب نظام مبارك الذي كان متساهلاً بعض الشيء في الاستجابة إلى الضغوط الغربية، مما ترك مجالاً إلى التيارات الشبابية لتثبت أقدامها في التجمعات السياسية في القاهرة وصولاً إلى مشهد القدرة على الحشد والتنظيم في ثورة يناير؛ فإن السيسي لا يريد أن يُقدم أيّ تنازلات للخارج.
رفضَ السيسي تسليم قتلة چوليو ريچيني المحسوبين على أجهزة الأمن المصرية إلى السلطات الإيطالية، ويرفض إلى الآن الإفراج عن رامي شعث الناشط اليساري الذي طالب ماكرون بالإفراج عنه أو باتريك چورچ التي طالبت السلطات الإيطالية بالإفراج عنه، وأقدم على اعتقال قيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعد صعود بايدن رسمياً إلى الحكم.
وفي نفس الوقت، فإنه يعلم أنه مضطر إلى تقديم تنازلات شكلية، بين الحين والآخر، إلى الجهات الخارجية، على نحو لا يؤثر على قبضته الأمنية المشددة على المجتمع، ويحقق له في آن مجالاً للحركة السياسية، بحيث لا يكون نظامه معزولاً معرضاً للعقوبات والحصار السياسي… فماذا يفعل؟!
سلسلة من الإصلاحات الشكلية
في سبيل ذلك، أفرج السيسي عن عدد قليل من الأسماء التي طالبت السلطات والجهات الغربية بالإفراج عنها، لأسباب تتعلق بصلتهم بالمجتمع المدني بالخارج، ومعرفة تلك الجهات أن القضاء المصري مسيس يدار من قبل الأجهزة الأمنية، وأن هذه الشخصيات ليست مسؤولة بالفعل عن أي ضرر سابق على المجتمع؛ وعلى رأس هذه الأسماء المفرج عنها، الناشطة المعروفة إسراء عبد الفتاح.
هنا، نلاحظ أن الإفراج يكون محدوداً، بعد ضغوط كبيرة، عن شخصية أنهكتها الأوضاع السجنية في مصر، لاسيما إذا كانت امرأة، بعد أن يتعقد الوضع بين النظام المصري والجهات الخارجية التي تمتلك سبلاً مختلفة، غير بسيطة، للضغط عليه وإيذائه.
بعد ذلك، في مناسبة قومية ضخمة، حضرتها شخصيات علمانية وليبرالية، بعضها كان في خصومة طفيفة مع النظام المصري، أعلن السيسي تدشين ما يعرف بالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، في الأسبوع الثالث من سبتمبر/أيلول الماضي، وهي بمثابة دستور نظري عظيم وشامل عن ضرورة تحسين ذلك المجال في مصر خلال الفترة المقبلة.
على التوازي، كانت هناك جهود ما يعرف بمجموعة الحوار الدولي التي يبرز فيها اسم النائب السابق محمد أنور السادات، لتقريب وجهات النظر بين الجهات الأمنية والسياسية في النظام المصري وبين الجهات الخارجية، ضمن سقف تفاوضي محدود للغاية، يتضمن السماح للشخصيات المهمة في السجن بتوديع أقاربها حال الوفاة، ومراجعة بعض الأسماء القاعدية غير المهمة في دوائر الحبس الاحتياطي؛ شريطة عدم المساس خطابياً بأوضاع الإسلاميين في السجون، لأسباب على رأسها أنهم غير مدعومين من الخارج إلى حد كبير، وأنهم في خصومة مباشرة مع القيادة السياسية للبلاد.
وفي وقت لاحق وضمن نفس الاستراتيجية، أعلن السيسي تشكيلاً جديداً لمجلس حقوق الإنسان في مصر، بحيث يضم على رأسه امرأة، ليبرالية، معروفة في الخارج، كي يقوم في تشكيله الجديد بزيارة مهمة إلى واشنطن قبل أيام من قرار السيسي الخاص بتعطيل حالة الطوارئ، لتهدئة خطوط الاتصال بين واشنطن والقاهرة.
إذاً بشكل واضح، فالقرار الأخير من السيسي الخاص بالطوارئ، الرائع من الخارج، الفارغ من الداخل تقريباً، يأتي في إطار محاولة استرضاء والالتفاف على الضغوط الغربية باللغة التي تفهمها تلك الدوائر، فـ"لقانون الطوارئ" بهذه الصيغة القانونية والإعلامية، حمولة دلالية بالغة السوء على شكل النظام في الخارج، من حيث الأوضاع الاستثنائية المستمرة منذ سنوات، والخروقات المبررة للمنظومة القانونية، تحت دعاوى: حالة الاستثناء، بمنطوقاتها المختلفة، وهو ما استدعى تجميل تلك الندبة الكبرى في جبين النظام.
مقتضيات الجمهورية الجديدة
يشير ذلك المُركب الوصفي، الذي صكته رئاسة الجمهورية المصرية مؤخراً، "الجمهورية الجديدة"، إلى عدة مضامين ودلالات، يتعلق بعضها بالظرف الإقليمي والدولي الذي صار يُحتم على السيسي إجراء بعض التغييرات الشكلية في المعجم القانوني والسياسي المهيمن على المجال الرمزي والخطابيّ للسلطة في مواجهة المجتمع.
من ضمن تلك الدلالات التي يشير إليها المصطلح عند مروجيه، أن الجمهورية الجديدة ليست مجرد تغيير جيوسياسي في مقرات الحكم وطرق الإدارة من خلال الانتقال من القاهرة التاريخية إلى العاصمة الجديدة، وإنما تتضمن تغييرات أشمل وأعمق على مستوى بنى المجتمع.
فالجمهوريّة الجديدة عندهم، هي مرحلة فاصلة بين فترة الاضمحلال والضعف الإداري والأمني وعدم قدرة الدولة على تدبير احتياجات المواطنين من الطاقة، وتفاقم مشكلات المرور والعشوائيات التي ورثها السيسي من عهد مبارك، وصراع الشرعيات بين الجيش والإخوان (استمر حتى التخلص من الرئيس مرسي) وتفلُّت العنف الإسلامي المسلح، وبين فترة جديدة أكثر ازدهاراً على مستويات متعددة، يرمز إليها فقط على نحو مكثف بالانتقال الإداري من القاهرة القديمة إلى العاصمة الجديدة، ولكنها تتضمن أكثر من ذلك.
من أجل ترويج ذلك المعنى السابق وحتى يهضم المواطنون البذخ المنتظر في افتتاحات العاصمة الإدارية الجديدة قريباً، اجترحَ السيسي مشروعاً ضخماً لإعادة صياغة الريف المصري، تحت اسم: "حياة كريمة"، لتقديم سردية عن أن التغير الإيجابي في الجمهورية الجديدة يطال الجميع، وكي يمتلك السيسي ورقة ثمينة للدفاع عن مفهومه الجديد بخصوص حقوق الإنسان التي ترنو في بلادنا إلى الحق في الحياة الكريمة قبل الحق في ممارسة السياسة والمظاهرات.
بينما في الحقيقة، يعد مشروع حياة كريمة جزءاً من مخطط التمدد الأفقي للمؤسسة العسكرية في المجتمع المصري، وباباً جديداً هائلاً للفساد المحلي بين الجيش والحكومة، ودعاية عملاقة للنظام الذي يقول في الخارج: ليس هناك أي دولة تفعل ما نفعله لأجل مواطنينا، فلا تحدثونا عن حقوق الإنسان بمفاهيمكم الغربية!
من ضمن ما يروج له على أنه من ثمرات تلك الجمهورية الجديدة، إلى جانب الانتقال الإداري وإعادة صياغة الريف المصري، قرارات لكسر حالة الاستثناء ظاهرياً مثل تعطيل حالة الطوارئ وعودة الجماهير إلى الملاعب، وأخرى تخاطب المجتمع الغربي باللغة التي يفهمها، مثل تعيين قاضيات نساء في مجلس الدولة، واستحداث نظام عصري لإدارة الأحوال السجنية في مصر.
وحتى ندرك الطابع الشكلي التجميلي لتلك القرارات، الخالية من أي مضامين حقيقية، يمكن مراجعة التحقيق السريع لموقع "المنصة" عن أسماء القاضيات المُعينات في مجلس الدولة، والذي يكشف أن نصفهن تقريباً، قريبات وبنات لقضاة موجودين بالفعل في سلك العدل، جرى تصعيدُهن من جهات أخرى مثل قضايا الدولة والنيابة الإدارية إلى مجلس الدولة خدمة لهذا الغرض الترقيعي.
لا تغييرات حقيقية وتطبيع للاستثناء!
فيما يخص قانون الطوارئ المنبثق عن حالة الطوارئ، فالخلاصة التي خرج بها القانونيون هي أن الحمولة السلبية التي رافقت مسيرة "الطوارئ" في مصر، جرى توزيعها خلال الأعوام الأخيرة على عدة قوانين أخرى، مثل قانون الكيانات الإرهابية والجرائم الإلكترونية، وأن القضايا المحالة إلى القضاء الاستثنائي قبل تعطيل حالة الطوارئ، ستظل منظورة أمام تلك المحاكم، ولن يجري أي تغيير إلا في الحالات الجديدة.
من زاوية أخرى في نفس الشأن، فقد راجعتُ معظم أنشطة وقرارات ولقاءات الرئيس السيسي خلال الفترة الماضية، لعلي أجد تغييراً إيجابياً ملحوظاً ولو طفيفاً في الخطاب أو في الأولويات الحكومية أو طريقة تسيير الأمور، بداية من كلمته في قمة فيشغراد مروراً بحضوره حفلات تخرج طلبة الكليات العسكرية والشرطة المدنية والمولد النبوي، وصولاً إلى المداخلة التلفزيونية الأخيرة مع إحدى القنوات الخاصة؛ فلم أجد أي إشارة حقيقية على ذلك.
على العكس، فالرجل ماض بقوة في استراتيجيته المعهودة لإدارة البلاد، واضح في مسعاه بخصوص ضرورة إجراء تغييرات شكلية تزامناً مع المستجدات الدولية والمحلية كنوعٍ من التكيف السياسي، لم يتراجع عن عقيدته إزاء طريقة النظر إلى حقوق الإنسان، والتي طالب الأوروبيين مجدداً، خلال وجوده في بودابست، أن يروها بأعيننا لا بأعينهم، مصمماً على أن الأولوية في الإنفاق الحكومي يجب أن تكون على مشروعات المقاولات، لا التعليم والصحة، كما ذكر في افتتاح وحدات حدائق أكتوبر البديلة لمساكن سن العجوز المتاخمة لمنطقة الهرم بالجيزة.
والحق أنه إن أردنا فعلاً مناقشة موضوعية لتطور مفهوم حالة الاستثناء في السياق المصري، فإن المدخل لذلك لابد أن يكون كيف عمل السيسي، ونجح إلى حد معقول، في تطبيع حالة الاستثناء التي بدأت يوليو/تموز 2013، بحيث يبدو الاستثناء كما لو كان أمراً طبيعياً، عبر سلسلة إجراءات، بداية من تدشين قوات للتدخل السريع في الجيش تهدف إلى قمع أي تمرد مدني واسع النطاق، مروراً بنقل المقرات الحكومية الاستراتيجية إلى مناطق أكثر تحصيناً من تلك التي سقطت سريعا إبان يناير، إلى ابتكار سجون عصرية، قلاع سجنيّة في الصحراء تكفي أعداداً هائلة من المصريين بأقل الانتقادات الممكنة من الجهات الحقوقية، وصولاً إلى الوضع فوق الدستوري له رئيساً للبلاد مدى الحياة كابن للمؤسسة العسكرية التي تعد وصية على أي جهة منتخبة وفقاً لذلك الدستور!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.