يُخطئ البعض إذا ظن أنّ السعودية والدول الخليجية تقف عند تصريح قديم لذاك النائب أو موقف أو حديث لهذا الوزير لتتخذ الموقف السلبي من لبنان. فتلك التصاريح، تزيد الطين بلة فحسب، لكنها ليست الأساس.
ويُخطئ البعض الآخر إذا ظنّ أن هناك تبايناً بين الدول الخليجية من جهة، ومصر والأردن من جهة ثانية، في تشخيص حالة لبنان أو تموضعه، فقد يكون هناك تمايز في كيفية التعاطي مع بيروت أو في وصف العلاج فقط.
الأزمة اللبنانية-الخليجية أقدم وأعمق، بل هي نتيجة اعتبار الدول الخليجية لبنان رأس حربة للمشروع الإيراني في المنطقة، إلى جانب عدم تمكن الحكومات المتعاقبة، منذ التسوية الرئاسية لعام ٢٠١٦ من إسناد الدول العربية بأي شكل من الأشكال.
كذلك، هي نتيجة فشل العهود المتلاحقة من وضع استراتيجيات اقتصادية أو دفاعية أو خارجية واضحة. فالقرار في لبنان ممسوك من "حزب الله"، برأي الدول الخليجية قاطبة وأغلب الدول العربية. كما أنّ نشاط "حزب الله" العسكري والأمني توسع خلال عقديْن ليشمل العراق عام ٢٠٠٤ وسوريا عام ٢٠١٢ واليمن عام ٢٠١٥، إضافة، ودائماً بحسب القراءة الخليجية، إلى امتلاكه خلايا فاعلة أو نائمة في أكثر من بلد خليجي من الكويت وصولاً إلى الإمارات والبحرين.
ولم تستطع الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ عام ٢٠١٥، أي منذ تاريخ تسلّم الملك سلمان لمقاليد الحكم، من بناء علاقات مريحة مع القطب العربي الكبير والخليجي الأكبر.
وفي الرابع من تشرين الثاني ٢٠١٧، حين استقال رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك سعد الحريري على هواء شاشة العربية السعودية، بعد سنة وشهر من انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وعلى رغم ما قيل حينها عن جانب شخصي للاستقالة، كان الجانب السياسي بارزاً وحاضراً، بدليل مواصلة المملكة اتخاذ الموقف السلبي والمتشدد نفسه من حكومة الرئيس حسان دياب والأكثر تشدداً اليوم من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. ويتضح تالياً أن عمق المسألة سياسي بامتياز.
وعلى الرغم من انتخاب عون بتسوية مثلثة الأضلاع، بدأها الدكتور سمير جعجع بعقد اتفاق معراب، وأتبعها الحريري بتفاهم باريس مع الوزير جبران باسيل، والذي أفضى الى اتفاق بانتخاب عون رئيساً للجمهورية وتسمية الحريري رئيساً للحكومة، تمكّن جعجع من استعادة ثقة المملكة نتيجة أدائه المتناغم مع الموقف السياسي السعودي، بخلاف رؤساء الحكومات السابقين والمتلاحقين، والذين اعتُبرت مواقفهم "رخوة" أو مستسلمة، إما رغبة بالسلطة أو خوفاً من "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لأسباب شتى.
غير أنّ القاصي والداني يدرك، أنّ مواقف رؤساء الحكومات المتعاقبين جاءت نتيجة تولي بعضهم السلطة ما ألزم هؤلاء إمساك العصا من المنتصف للتمكن من الحكم. ولكن يبدو أنّ محاولاتهم لم تنجح مع الدول الخليجية، كما أنها لم تجدِ مع "حزب الله" الذي عطّل جلسات مجلس الوزراء بعد ثالث جلسة عقدت لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الذي لم يوافق مسنوداً من رئيس الجمهورية على خلع المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار من دون وجه قانوني.
ومما لا شك فيه، أنّ اهتمام الدول الخليجية بلبنان قد اضمحل، والمساعدات السعودية قد تلاشت والحضور السعودي اقتصر على متابعة مجريات الأمور ورصد التحركات دونما اهتمام جدِّي بدعم أي مشروع سياسي لبناني، خاصة أنّ السعودية كانت قد أنفقت مليارات الدولارات في إناء مثقوب، حسب قول كل زوّار المملكة.
ولعل الموقف الرسمي الأوضح للخارجية السعودية، صدر بعد أحداث الطيونة التي دارت بين مناصرين للثنائي الشيعي ومنتمين لحزب "القوات اللبنانية" كما اتضح في التحقيقات، وسقط نتيجة هذه الأحداث ٧ ضحايا ينتمون جميعاً إلى الطائفة الشيعية، إلى جانب عدد كبير من الجرحى الذي تجاوز الثلاثين من الطرفيْن.
وفي بيان الخارجية السعودية، الصادر في الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول، تطلعت المملكة إلى أن "يعم لبنان الأمن والسلام بإنهاء حيازة واستخدام السلاح خارج إطار الدولة وتقوية الدولة اللبنانية لصالح جميع اللبنانيين دون استثناء، فالشعب اللبناني الشقيق يستحق استقراراً في وطنه ونماء في اقتصاده وأمناً يبدد الإرهاب".
جاء استدعاء جعجع للتحقيق، ليزيد التوتر السعودي حيال الحكومة اللبنانية والنخبة الحاكمة. وفي ظل هذا التشنج تم تسريب ما أدلى به وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي قبل أسابيع من تسميته وزيراً. وتم تداول كلام في أوساط الإعلام اللبناني عن تسريب تسجيل آخر لوزير سيادي يتناول فيه المملكة ودورها.
وتتالت المواقف المستنكرة واستدعاءات السفراء اللبنانيين في كل من السعودية والكويت والبحرين والإمارات دون أن يعطي استنكار رئيسي الجمهورية والحكومة لتصريحات قرداحي وتمسكهما بالعلاقات الممتازة مع السعودية والدول الخليجية أثراً إيجابياً لتبريد التوتر، بل يبدو أن الأمور مستمرة على طريق التصعيد. تصعيدٌ يعزز القطيعة الخليجية مع لبنان والتباعد مع العرب، ويؤدي إلى دخول البلاد حلقة جديدة من الصعوبات يدفع ثمنها المواطن اللبناني الذي يكافح ويناضل ليطعم أبناءه كفاف يومهم.
ومن المرجح أن تشتد الحملة الخليجية على الحكومة ورئيسها وصولاً إلى محاولة دفعه الى الاستقالة وهي مستبعدة، خاصة أنّه كان قد أشار يوم تكليفه إلى دعم دولي تلقاه لتأليف الحكومة، لم يتبدَّ حتى هذه اللحظة أنّه فقده، ولو أنّ هذا الدعم بات يخف بدوره نتيجة انشغال الفرنسيين بانتخاباتهم القريبة ونتيجة معاودة الأمريكيين فرض عقوبات طالت للمرة الأولى، إلى جانب النائب جميل السيد، شخصيات اقتصادية غير مرتبطة بـ"حزب الله" أو إيران؛ إذ فرضت واشنطن عقوبات على رجليْ الأعمال جهاد العرب وداني خوري على خلفية فساد في تنفيذ مشاريع عامة في لبنان، وذلك في سياق جرى توضيحه في متن قرار تلك العقوبات.
غير واضحٍ بعدُ الثمن الذي ترضى به الدول الخليجية لخفض التوتر مع لبنان، وغير واضح إذا ما كان لدى رئيسيْ الجمهورية والحكومة ما يستطيعان تقديمه، فاستقالة قرداحي بيد من سمّاه، واستقالة رئيس الحكومة مستبعدة طالما أن ظروف نضوجها لم تظهر دولياً.
من هنا، يكون الوضع مرشحاً لمزيد من التباعد والنفور الذي بات يصيب ليس فقط الحكومات لكن الشعوب التي كانت متآلفة ومتآخية وباتت متنافرة متخاصمة وفق انقسام لبناني حاد لا يتضرر منه إلا لبنان، البلد الهش اجتماعياً واقتصادياً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.