من حق الشعوب في كل بقاع الأرض أن تعلم أن حكامها هم شبكة من المؤسسات العالمية، الرسمية وغير الرسمية، تتوزع أدوارها على الرقعة العالمية بحسب المواقع والمراكز والانتماءات، سياسياً، أيديولوجياً، مالياً، واقتصادياً.
هذا ما يستشف من "وثائق بنما" المسربة، في السابق، وما يتراءى أمام الأعين بالتسريبات الجديدة الآن، أو بات ما يعرف بـ"وثائق باندورا"، وقبلهما، كانت "وثائق ويكيليكس" الأكبر حجماً، والأبلغ دلالة في علاقات الوثائق بأصحابها المعنيين.
الأدهى من هذا أن كل ما هو معطى على أرض الواقع السياسي والاقتصادي، واضح للعيان قبل أن تكشفه مصادر أخرى. الشعوب مغبونة بتفاهات النظام العالمي، وأذنها محشوة بسيمفونيات العدالة، وغارقة حتى أخمص قدميها في خطابات الديمقراطية المترامية هنا وهناك، وترزح تحت أوهام الحرية. سيبقى الوضع على ما هو عليه ما دامت رصاصات الرأسمالية والديكتاتورية تسيطر على دواليب السياسة والحكم والاقتصاد.
العالم وغول الليبرالية
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه كل تجاذبات التيار الاشتراكي، دخل العالم في مرحلة جديدة كان من المتوقع للتيار الليبرالي فيها أن يجرف بكل الأوضاع القديمة، وأن يعمل على إعادة ترتيب العالم بكل معطياته السياسية والاقتصادية والأيديولوجية تحت ريادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها. أصبحت شعوب العالم تحت قبضة التوجهات المذهبية الليبرالية، اقتصادياً، أيديولوجياً، وثقافياً. تحدد الليبرالية بمختلف تنوعاتها أشكال الإنتاجات المادية والمعنوية، جعلت منا كائنات تابعة ومستلبة في وعيها العام وفي تصوراتها كافة تجاه الحياة بكل محدداتها. تم ذلك بفعل تجليات الفكر المادي المحض، حتى غدت معها آلات في تروس الاقتصاد المادي والرمزي المعوّلم. فتم تشيّيء كل شيء وكل العلاقات فيما بين الإنسان ومحيطه العام، باسم الحداثة وما بعدها.
عمليات التنويم المجتمعي
تم تنويم المجتمعات بالإغراءات والرغبات الاستهلاكية والمنتجات والبضائع الضرورية والكمالية. شعوب الأرض تلهث وراء كل ما هو جديد من دون حساب أو حيطة مما تضمر من سلبيات على حياتها، حتى فيما هو قيمي وحميمي.
تلك المنتجات المتحكم فيها من قبل رواد الرأسمالية الغربية. تلك الأخيرة تقيم تحالفات متعددة الأطراف، علماً بأن كل الدول والأنظمة أصبحت في سلسلة واحدة، كل واحد منهم يقوم بدوره، على أساس ضوابط اللعبة قائمة.
كل فاعل في تلك السلسلة يستمد دوراً من طبيعة الموقع الذي يحتله في الهرم السياسي أو الاقتصادي داخل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها على اختلافها، أكان رئيس دولة أو رئيس حكومة أو رئيس مؤسسة مالية أو صاحب مجموعة اقتصادية أو زعيم شبكة مخدرات أو زعيم حزب سياسي أو بقائد عسكري.
وبهذا يكون الفاعل بداخل هاته الشبكات له موقع قدم على أرض الواقع الذي يخول له مسك بعض خيوط من اللعبة في علاقاته بالآخرين ولو بعدت المسافة.
الهيمنة على الشعوب
الهيمنة على الشعوب أضحت أيديولوجية قائمة بذاتها. الذات البشرية، على صلابتها وامتداداتها، صارت مقولبة ومحددة في أنماط معينة.
لذلك لا عجب في ما يعتمل في كل جوانب الحياة بداخل المجتمعات، بهدف خلق المزيد من الفرص للسيطرة، فتجار السياسة والأسلحة والمؤسسات المالية والاقتصادية والمخدرات، يعملون على إبداع آليات التحكم في مصائر الشعوب وخنقها، وكذا يوهمونها بكونها تعيش الحرية والديمقراطية وتنعم بالعيش الرغيد والحياة الكريمة والعدالة الحقة والمساواة، إلا أن كل هذا لا يعدو أن يكون غير ذر الرماد في الأعين تتقبلها الجماهير بسذاجة لا نظير لها بعد تسويق كل أشكال الموضة المادية والمعنوية وانبهارها بها.
دور الوثائق المسربة
بعد كل هذا الكمّ من الفضائح عبر عقود من الزمن، والتي ملأت كل أرجاء المعمورة، وسوف لن تكون آخرها ما عرف قبلاً بـ"وثائق بنما"، وما يعرف الآن بوثائق "باندورا"، وما علم سابقاً من تسريبات "وثائق ويكيليكس"، التي برهنت على وجود خفافيش المافيات السياسية والاقتصادية والمالية الماسكة بمصائر الشعوب.
ما على الشعوب في كل بقاع العالم إلا العمل على إعادة النظر في تصوراتها وتمثلاتها تجاه كل ما يشكل حقول حياتها العامة والخاصة في علاقاتها الداخلية بحكامها وأصحاب الرساميل المادية والرمزية، وكذا في علاقاتها الخارجية بما يشكل عوالم المنتظم الدولي وقواه الفاعلة على جميع الصعد، وإلا ستبقى رهينة المخططات الجهنمية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.