من الطبيعي أن يكون لموقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيال سفراء الدول العشر، واعتباره إياهم "أشخاصاً غير مرغوب فيهم"، صدى واسع في جميع أنحاء العالم. فمثل هذا الموقف الشديد غير مسبوق، ولم يكن له مثيل سابق في تركيا أو العالم على حدٍّ سواء، وهو ما حول الأنظار فجأة صوب تركيا.
من الطبيعي أن تكون هناك شريحة جاهزة لتلقُّف ذلك الحدث على أنه مثال حي على مدى تعسف إدارة الرئيس أردوغان و"شعبويتها"، لكن لا يمكن لأي أحد من هؤلاء أن يقول إن ما تسبب بموقف أردوغان غير المسبوق في الأصل ليس بالأمر العادي أو الهين.
إن الشيء غير العادي في الحقيقة، والذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الدبلوماسية العالمية، أن يجتمع سفراء 10 دول في آن واحد كنشطاء ضمن حزب أو حركة سياسية ما، ويصدرون بياناً مشتركاً حول قضية كانت تخص دولة أخرى.
يتحمل السفراء في العادة مسؤولية تمثيل بلدانهم على أكمل وجه، في البلد الذي يمثلون فيه بلادهم، وإقامة حلقة وصل بين البلدين تكون نموذجاً يحتذى به.
ولذلك من المنطقي للغاية أن نسأل هؤلاء السفراء عن الدافع الذي جعلهم يقدمون على هذه الخطوة الغريبة والاستثنائية و"الخطيرة" في التعامل مع البلد المضيف. لأن تلك الخطوة المسيّسة لأبعد درجة، والتي تجاوزت الحدود بشكل غير معقول، ولم تترك في الواقع خياراً آخر أمام أردوغان، هي التي دفعت أردوغان للرد بطريقة صارمة وغير مسبوقة كما رأينا. وأكد تراجع الدول عن تصريحاتها وعلى رأسهم الولايات المتحدة صحة الطريقة التي تعامل بها أردوغان مع الموقف.
قضية مسيّسة أكثر من اللازم
لن أنظر على الإطلاق إلى سبب تسييس هذه القضية، لكن سأكتفي بالإشارة إلى أن قضية "عثمان كافالا"، التي كانت الذريعة وراء تحرّك هؤلاء السفراء؛ باتت قضية مسيّسة بالفعل الآن. ومن الواضح للغاية أن تسييس القضية بهذه الطريقة أخرجها من كونها مسألة قضائية، ومن جانب آخر أسهم هذا التسييس في تشويه بيئة المحاكمة العادلة للتهم الموجهة إلى كافالا.
على صعيد آخر، يحق لأي فرد في هذا البلد أو أي بلد ديمقراطي أن يكون معارضاً للسلطة، وأن يمارس هذا الحق بكل الطرق وأكثرها راديكالية حتى ما دامت ضمن الحدود القانونية، دون اللجوء للعنف أو دعم من يستخدم العنف. ولا يمكن لوم أي شخص أو مقاضاته لمجرد ممارسة هذا الحق.
لكن من ناحية أخرى، لا يمكن إنكار أن الحملات التي انطلقت بهذا الشكل الراديكالي والمثير للجدل من أجل إطلاق سراح كافالا، أثّرت بشكل سلبي زاد من زعزعة أجواء المحاكمة العادلة.
لماذا قام سفراء 10 دول دفعة واحدة بهذه الخطوة؟ هل فعلاً من أجل دعم كافالا؟ أم من أجل تنفيذ سيناريو آخر وبتوجيه من بايدن نفسه، لا سيما أنه وعد مسبقاً بخطته التي تهدف للإطاحة بأردوغان، عبر ما سمّاه "الفاعلين الديمقراطيين"؟
هل يهتم هؤلاء السفراء لأمر كافالا حقّاً؟
على صعيد آخر، لا يمكن القول بأنه لم يكن في الحسبان الغربي استقبال تركيا لهذه الخطوة الاستعلائية التي تتعامل معها وكأنها مستعمرة، وأن هذه الخطوة لن تترك أمام أردوغان خياراً سوى إعطاء ردّ قاس وشديد، وإلا فإن تركيا في إطار علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، تفتح سجونها ومحاكمها أمام مراقبة الاتحاد الأوروبي دون عائق، ولا تزال المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بالفعل تعطي رأيها في شتى الملفات القضائية بتركيا، لا سيما في قضية كافالا، وهذا شيء متعارف عليه ومقبول ضمنيّاً بين الجانبين.
لكن ما حصل مع قضية السفراء تجاوز هذا الخط بكثير، لدرجة تفرض علينا أن نكون بلا نظر حتى نصدق أنها خطوة بريئة ولا توجد أي خطة وراء استخدام قضية كافالا، لا سيما أننا شهدنا ما يشبه حالة التمرد لدى هؤلاء السفراء.
بالتأكيد ليست حرية كافالا ما يشغل بال السفراء، بل ما يهمهم هو تصفية حسابات سياسية مع أردوغان من خلال كافالا، وهم يدركون أنهم بهذه الطريقة سوف يجعلون قضية كافالا أكثر صعوبة، لكنهم لا يكترثون لذلك إطلاقاً.
إذا كان همهم الحقيقي هو حقوق الإنسان والديمقراطية، فلماذا لا نراهم متضامنين إذن مع الصحفيين والكتّاب والسياسيين الفلسطينيين المحتجزين في السجون الإسرائيلية لعقود، في ظل أسوأ الظروف دون محاكمة حتى؟ أم أن سجون تركيا أسوأ من تلك السجون والأوضاع فيها أكثر إلحاحاً؟
ماذا عن إسرائيل ومصر وسوريا؟
كتب بالأمس "رسول طوسون"، في صحيفة "ستار"، عن هذا التناقض بأوضح صورة. على سبيل المثال تساءل لماذا لم يتحرك أحد من هؤلاء السفراء حينما سُجن أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وتُرك ليموت في قاعة المحكمة، من غير أن يشعر هؤلاء السفراء بأي دافع لإصدار بيان من سطر واحد حتى، أو لماذا لم نسمع من هؤلاء السفراء كلمةً واحدة عن آلاف المعتقلين الذين تركوا للموت دون محاكمة، في ظل أقسى الظروف وأصعبها؟
لماذا مثلاً لا تفكر هذه الدول بالقانون وحقوق الإنسان حيال الآلاف المؤلفة من الشعب السوري، الذين قتلوا على يد نظام الأسد، وآلاف النساء المحتجزات في سجون هذا النظام كرهائن؟
أليست هذه النماذج والأمثلة تمثل مواقف أكثر إلحاحاً من حيث القيم وحقوق الإنسان والديمقراطية؟
بالطبع هذا لا يعني التقليل من شأن حرمان أي حد من حريته، وحتى ولو كان فرداً، فإن الظلم سواء كان إزاء فرد أو جماعة فهو مشكلة خطيرة في نهاية الأمر.
لكن الأهم هو أن حل هذه المشاكل لا يقع على عاتق سفراء تلك الدول الوقحة، التي قامت هي بذاتها أو دعمت جميع أنواع الانقلابات المناهضة للديمقراطية، فضلاً عن دعم الأنظمة الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان على الدوام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.