حاربتُ الشعور بالألم لسنوات طويلة حتى أصبح في فترة كبيرة من حياتي جزءاً منِّي. لم أتخيل يوماً أن فراري منه لسنوات طويلة سيجعله جزءاً من تكويني وتكون قصة حياتي عبارة عن رحلة للفرار منه.
ماذا نفعل تجاه الألم؟
وفي رحلة التعافي التي خُضتها اكتشفت أن الفرار من الألم كان مؤلماً أكثر بكثير من تقبله والاستماع له، فلم أكن حاضرة في أي لحظة بوعيي ووجداني، كانت هناك فترات من الحياة لم تكن حاملة تلك الآلام وقسوتها، ولكني كنت أخاف منها حتى في لحظات السعادة التي مرت عابرة ولم ألحظها، فوجداني كله كان عالقاً في الألم وكيفية الفرار منه.
الشاعر العظيم صلاح جاهين خرجت أشعاره من بوتقة الألم، حيث كان مصاباً بالاكتئاب ثنائي القطب، ويظهر ذلك في الكثير من الرباعيات التي كتبها، فبعضها كان يرقص طرباً والآخر يقطر وجعاً، أو ممزوجاً بهما معاً بعبقرية.. يقول صلاح جاهين:
كرباج سعادة وقلبي منه انجلد
رمَح كأنه حصان ولفّ البلد
ورجع لي آخر الليل وسألني:
ليه خجلان تقول إنك سعيد يا ولد
وعجبي
انشد يا قلبي غنوتك للجمال
وارقص في صدري من اليمين للشمال
ما هو مش بعيد تفضل لبُكرة سعيد
ده كل يوم فيه ألف ألف احتمال
وعجبي
يبدو أن تلك الكلمات جاءت لتطمئن مخاوفه أن تلك اللحظات المؤلمة لن تدوم وأيضاً لحظات السعادة لن تدوم فتلك سُنة الحياة قائمة على التوازن والتغيير.
تلك الكلمات ليست محاولة لتمجيد الألم، ولا دعوة للترحيب به، فالألم أمرٌ قاسٍ، وخصوصاً النفسيّ منه، الذي يمر به صاحبه بدون أي إشارات جسدية واضحة، فيعاني من عدم الاعتراف به.
يقول الكاتب الأمريكي سكوت بك: "ليس ضرورياً أن يكون نصيبنا من الحياة أن نتألم ألماً جسدياً يفوق الاحتمال، فإنه لا يزال من نصيبنا أن نتألم نفسياً، ولعل من أهم عيوب هذا العصر الذي نعيش فيه هو أنه ينكر أن الألم النفسي إحدى حقائق الحياة".
وأرى أن تلك الكلمات ما هي إلا دعوة لتقبل الألم وقبول وجوده في الحياة وأنه أمر واقع، يأتي لوظيفةٍ ما حاملاً رسالة ومعنى وقيمة بداخلها، وسواء عرفنا ذلك المعنى وفهمنا الرسالة أو عجزنا عن أن نفهم المغزى من ورائه يكفينا أننا تحملناه بشجاعة واستطعنا أن نتقدم إلى الأمام في حياتنا.
فإذا كنت يا عزيزي القارئ في مقعد المتألم فابحث عن بيئة آمنة تتكلم فيها بأريحية وشفافية عن ألمك، فأحياناً كثيراً ما يكون البوح والحديث عن تلك الآلام بداية الشفاء. فابحث عن علاقة آمنة، لأن من الأمور التي تزيد أيضاً من شدة الألم، إضافة إلى عدم الفهم، هي الوحدة. فإن كانت بعض العلاقات تجلب الألم، فالعلاقات الصحية أيضاً تستطيع أن تشفينا منه.
فالعلاقات الإنسانية، ولا سيما الحميمي منها، أحياناً ما تكون أصعب ما في الحياة، ولكنها في الوقت نفسه أجمل ما في الحياة، فالعلاقات التي تجعلنا نعتقد أننا محبوبون وذوو قيمة فنشعر بالسعادة والفرح والانتماء إليها، تكون تلك هي العلاقات الشافية.
ماذا تفعل تجاه المتألم؟
إذا كنت في مقعد صديق المتألم، فأرجوك لا تتسرع في الحكم أو المحاسبة أو الوعظ، فالإنسان المتألم، أو الذي يتعلم الكلام عن مشاعره لأول مرة، قد تخرج كلماته مبعثرة ومتهورة، قد يبدو ناقماً حزيناً غاضباً أو حتى تائهاً، لأنه قد لا يملك مهارات الحديث أو يعرف جيداً ما يجول بداخله.
هو يحتاج أن يتكلم ليستكشف ألمه واختارك لتكون شريكاً له، هو لا يحتاج إلى الوعظ والإرشاد حالياً، وإنما هو فقط يريد الحديث، ويريد منك الإنصات والأمان ليتحدث بأريحية.
قد تبدو هذه الكلمات دعوة للعيش في دور الضحية المتألمة بلا محاولة للحل، ولكن صدقاً وعن تجربة حين نتكلم بوعي مع مرشد أو معالج أو صديق أمين نستطيع أن نستبصر بمواضع الألم الحقيقية وتحمل مسؤولية علاجها بأنفسنا.
يقول الدكتور أوسم وصفي في كتابه "الألم": "إن من يعظ شخصاً نائحاً ويعلمه، يكون مثل الشخص الذي يقدم طعاماً مفيداً إلى شخص لا يستطيع هضمه، فيسبب له ألماً أكثر من تقديمه الفائدة، كما أنه يهدر الطعام".
هذا المقال ليس إلا دعوة لفهم الألم ووجوده، وحين يَحدث هذا سنكتشف أننا حين نواجه الألم ونسمعه ونتحدث إليه وعنه، فإن ذلك يعيننا على تحمل الألم، بل سيتحول إلى طاقة لتشكيل حياتنا وتحويله إلى فرصة للنضج والحياة من جديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.