في مذكراته "في زمن العواصف"، كشف الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا جزءاً من حساسية العلاقة بين فرنسا والجزائر، مشيراً إلى ثقل ملف الذاكرة، وكيف كان الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة يخصص الساعة الأولى من لقاءاته مع ساركوزي للحديث عن ثورة التحرير وعن الآلام والأوجاع التي خلّفها الاستعمار. ومع أن ساركوزي كان يورد هذه الرواية على سبيل السخرية والنقد، فإنها تشير إلى الحساسية التي يأخذها ملف الذاكرة في تأطير العلاقة الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا.
فرنسا وسرديات ملف الذاكرة مع الجزائر
الرئيس الفرنسي الحالي، إيمانويل ماكرون، تعامل بقدر كبير من البراغماتية مع هذا الملف. فقد زار الجزائر عقب انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية، وأعلن من فوق ترابها استعداد بلاده لتسليم جماجم مقاومين جزائريين موجودة بمتحف الإنسان بباريس، كانت الجزائر تطالب باسترجاعها، بل إنه ذهب أبعد من ذلك، وحاول أن يغازل الطلب الجزائري باعتراف فرنسا بجرائمها ضد الجزائر، وأقر بالجرائم التي ارتكبها المستعمرون الأوروبيون، وأنها جزء من التاريخ الأوروبي، مشيراً إلى أنه ينتمي لجيل لم يشهد تلك الحقبة، وأن مسؤوليته هي التوجه للمستقبل وليس الارتهان للماضي.
تصريح ماكرون، الذي تعهد بفتح صفحة جديدة من العلاقة مع الجزائر، فتح شهية الحكام في الجزائر، فطالبوا بعد سنة تقريباً (أي في سنة 2018)، وبشكل رسمي، فرنسا بإعادة جماجم مقاوميها، وكذا استرجاع أرشيف الفترة الممتدة من 1830 إلى 1962، وهو ما تم بعضه بالفعل، لكن بعد سنتين، وتحديداً في يوليو/تموز 2020، إذ أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن استرجاع بلاده من فرنسا رفات 24 مقاتلاً، كانت جماجم بعضهم معروضة في متحف في باريس.
هذه الوتيرة الإيجابية في تسوية ملف الذاكرة استمرت إلى مارس/آذار 2021، إذ اعترفت فرنسا بتعذيب المناضل الجزائري علي بومنجل واغتياله على يد جيش الاحتلال سنة 1957، وتلا ذلك أيضاً -بعد أسبوع من هذا الاعتراف- قرار الرئيس ماكرون بإتاحة الاطلاع على الأرشيف السري للحقبة الاستعمارية في الجزائر، وخصوصاً ما يتعلق بحرب التحرير الوطني (1954-1962).
لكن، مع الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية، سيسجل السلوك الفرنسي تناقضاً كبيراً، وستظهر ثلاثة مؤشرات مقلقة، أولها احتفاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضمن مراسم تكريم في قصر الإليزيه بحركيين سابقين وأسرهم ومسؤولين عن جمعيات وشخصيات، وطلبه باسم فرنسا "الصفح" من الحركيين الجزائريين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي خلال حرب الجزائر، ولإعلانه عن قرب إصدار قانون لتعويضهم.
والثاني، إعلان فرنسا تشديد شروط منح التأشيرات لمواطني الجزائر والمغرب وتونس، مبررةً ذلك برفض هذه الدول إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لإعادة مهاجرين غير نظاميين متواجدين على التراب الفرنسي.
والثالث، تصريحات نُسبت للرئيس الفرنسي ماكرون أثناء استقباله للحركيين -نسبتها جريدة لوموند إليه- شككت في تاريخ الجمهورية الجزائرية، معتبراً أن الجزائر أنشِئت بعد استقلالها عام 1962، "ريعاً للذاكرة" كرّسه "النظام السياسي-العسكري"، منتقصاً من هيبة وقوة النظام الجزائري، وأنه أنهك بفعل الحراك (الاحتجاجي) الذي اندلع سنة 2019.
هذا التناقض في السلوك الفرنسي في الجزائر، الذي قوبل بتصعيد جزائري تمثل أولاً في استدعاء السفير من باريس، ثم إغلاق المجال الجوي أمام جميع الطائرات العسكرية الفرنسية، يطرح تساؤلات عميقة ليس فقط على السلوك الفرنسي تجاه ملف الذاكرة، ولكن على أسباب خلفيات تمرير الخلاف الدبلوماسي بين البلدين عبر هذا الملف.
تفسير تناقض السلوك الفرنسي
البعض يعتقد أن تغير الموقف الفرنسي (موقف الرئيس الفرنسي تحديداً) جاء بخلفية انتخابية، وأنه أراد بذلك أن يستقطب جزءاً من قاعدة اليمين المتطرف، الذي يلعب على ملف الهيبة الفرنسية في تعاملها مع مستعمراتها السابقة، أو يلعب على ملف الهجرة والأجانب (موضوع التأشيرات).
والحقيقة أن هذا التفسير وجيه، ويصدق التوقيت، فإصدار المواقف الإيجابية من ملف الذاكرة بدأه ماكرون منذ انتخابه، وتزامن ذلك مع تعيين عبد المجيد تبون رئيساً للوزراء في الجزائر، أي منذ سنة 2017، وبقيت الوتيرة على نفس النسق إلى اللحظة الانتخابية الفرنسية، أي قبل أشهر معدودة من الرئاسيات الفرنسية التي ستجري في أبريل/نيسان 2022.
لكن، التصحيح الذي استدرك به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الموقف، يقلل من وجاهة هذا التفسير، ويجعل ملف الذاكرة كله مجرد واجهة لتصريف الخلاف الدبلوماسي العميق بين الجزائر وفرنسا.
فقد أعلن عن رغبته في تهدئة الأمور بين باريس والجزائر، مفضلاً حوار الطرفين لتحقيق تقدم بدلاً من تصعيد الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، بل ذهب أبعد من ذلك، وحضر بنفسه -على غير عادة الرؤساء الفرنسيين- كأول رئيس فرنسي يحضر مراسم إحياء ذكرى الضحايا الجزائريين في مظاهرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 في باريس.
الإعلام الجزائري يرى أن التصعيد الجزائري تجاه فرنسا ألزمها بتصحيح جزء من موقفها تجاه الذاكرة، لكن ما السبب الذي يجعل فرنسا دائماً حين تريد أن تباشر تقارباً أو تسوية لأزمة بينها وبين الجزائر، أن تجعل من ملف الذاكرة الممر الذي تمر منه المواقف الفرنسية؟
التحليل الذي يفسر هذه اللعبة يطرح سؤال طبيعة الأزمة الدبلوماسية الفرنسية الجزائرية، وما المصالح الفرنسية التي كان يرجوها ماكرون ويريد من الجزائر أن تحققها عندما كان يغازل ملف الذاكرة منذ سنة 2017.
وما المصالح الفرنسية التي تهددت ما بين 2020 و2021، حتى دفعت فرنسا لتغيير موقفها؟ وما مضمون المفاوضات السرية التي جرت بين البلدين، بعد استدعاء الجزائر لسفيرها وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الفرنسية، حتى اضطر ماكرون لتهدئة الخطاب، والحديث عن الحوار المتبادل؟
الأزمة الاقتصادية في باريس
ما من شك أن الرئيس ماكرون، ومنذ انتخابه رئيساً للجمهورية الفرنسية، اتجه إلى ذات السياسة الفرنسية التقليدية، تجاه كل من الجزائر والمغرب، تلك السياسة التي تعتمد معادلة: "أقترب منك بقدر ما تمنحني من الامتيازات"، فكانت تتطلع إلى أن يكون لها حظ الأسد في المشاريع التي أطلقتها الحكومة الجزائرية منذ تعيين عبد المجيد تبون رئاسة الحكومة، ثم رئاسة الجمهورية.
هذه الرغبة اشتدت بشكل كبير، لا سيما مع فترة الأزمة التي عرفتها فرنسا بسبب جائحة كورونا، التي كبّدت الاقتصاد الفرنسي خسائر فادحة، فحسب معطيات رسمية فرنسية، تراجع الناتج الخام الداخلي خلال الدورة الأولى من سنة 2020 إلى 5.8%.
وهي نسبة لم تُسجل في فرنسا منذ سنة 1949، وبلغ الدين العمومي نسبة 116% خلال الدورة الثالثة من 2020، وتقهقرت نسبة النمو بشكل غير مسبوق، إذ نزلت إلى 18.5% خلال الدورة الثانية من سنة 2020، في حين ارتفعت نسبة البطالة، فقفزت من 7% إلى 9% في الدورة الثالثة من عام 2020، وهي الوضعية الاقتصادية التي تسببت في ركود اقتصادي، نتج عنه إفلاس عدد من الشركات الفرنسية.
الجزائر تعاقِب على طريقتها
فرنسا كانت تأمل أن تلتقط الجزائر إشاراتها الإيجابية بخصوص ملف الذاكرة، وتلبي جزءاً من المصالح الفرنسية، لا سيما مع اقتراب اللحظة الانتخابية، حيث كان يمني ماكرون الشعب الفرنسي بانتعاشة اقتصادية وشيكة، تطوي صفحة الآلام التي تسببت فيها جائحة كورونا.
لكن الذي حصل جزائرياً سار في الاتجاه المعاكس تماماً، فقد اتخذت الجزائر قرارات صعبة أنهت بمقتضاها عدداً من العقود التي أبرمتها مع شركات فرنسية، فقررت عدم تجديد التعاقد مع شركة "راتيبي باريس"، التي كانت مكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011.
كما أوقفت السلطات الجزائرية عقد شركة "سيوز" الفرنسية، في شهر أغسطس/آب الماضي، التي أسندت إليها مهام توزيع الماء في العاصمة منذ 15 سنة، متهمة إياها بالتقصير والفشل في أداء مهامها.
كما اضطرت فرنسا إلى إغلاق مصنع "رونو" في الجزائر، بعد أن اتخذت السلطات الجزائرية قرارات بإضافة ضرائب ورسوم على مكونات السيارات المستوردة، منهية بذلك امتيازاً كبيراً منحه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا منذ سنة 2014.
الأمر لم يتوقف عند هذه الحدود، بل امتد أيضاً إلى النفط، فقد أعلنت وزارة الطاقة الجزائرية، في ديسمبر/كانون الأول سنة 2019، عن استحواذ شركة "سوناطراك" الحكومية للمحروقات، على أصول شركة "أناداركو" الأمريكية، في حقول نفطية وغازية جنوبي البلاد، لتمنع بذلك تحويلها إلى شركة "توتال" الفرنسية.
ولم تسلم السياسات الخارجية من التدافع على المستوى الإقليمي، سواء تعلق الأمر بالملف الليبي، الذي انزعجت فيه الجزائر من التقارب الفرنسي الإماراتي، والدعم المقدم للجنرال حفتر، الذي بات يشكل تهديداً للأمن القومي الجزائري.
أو تعلق الأمر بالعلاقات الفرنسية المغربية، حيث ترى الجزائر أن فرنسا منحازة إلى الموقف المغربي في قضية الصحراء، أو تعلق الأمر بملف الساحل جنوب الصحراء، الذي ترى فيه الجزائر أن الانسحاب الفرنسي (إنهاء عملية "برخان" في الساحل)، كان بهدف توريط الجزائر وتعريض أمنها للخطر.
في ضوء هذه الوقائع، ينبغي أن تفهم التصريحات الفرنسية بخصوص ملف الذاكرة، وهي تصريحات تتزامن مع مواقف تصعيدية أخرى صدرت عن الجزائر، مثل التوجه نحو روسيا لاستيراد القمح بدل القمح الفرنسي، والانفتاح على الأتراك، وعدم إصدار أي تصريح رسمي ينتقد الدور التركي في ليبيا.
وأزعج ذلك الرئيس ماكرون، فتحدث عن مفارقة الموقف الرسمي الجزائري، الذي يعمّق العلاقة مع تركيا، التي هيمنت -على حد تعبيره- على الجزائر، ويقوم بالعكس مع فرنسا، معتبراً إياها المستعمر الوحيد الذي هيمن على الجزائر، هذا فضلاً عن فتح ممر مهم للروس في مالي، وذلك رداً على موقف الانسحاب الفرنسي، وأيضاً محاولة منها لإقامة قدر من التوازن مع المغرب في ملف الصحراء.
لعبة ملف الذاكرة
الحاصل أن ملف الذاكرة بكل التناقض الذي عرفه السلوك الفرنسي إزاءه، يعكس في الجوهر في حالة العلاقات الدبلوماسية المتأزمة بين البلدين، وعدم الاهتداء إلى طريق مشترك لتسوية الخلافات، وأنه كلما أرادت فرنسا توسيع امتيازاتها في الجزائر تدنو من الجزائر بخطوات محدودة في ملف الذاكرة، وكلما اشتدت الأزمة بين البلدين يتم الاتجاه أيضاً إلى ملف الذاكرة، بإصدار خطوات مهينة لإرضاء الجمهور الفرنسي الغاضب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.