اليوم، وبالتزامن مع إحياء ذكرى مولد النبي، تذكرت أحد أغرب المواقف التي مررت بها في أثناء مدة تدريسي، ربما تعرفون الآن أنني رجل أحب الاستطراد، ولكن في التدريس هناك دوماً منهج محدد لا بد من إنجازه، نعم طلابي يحبون استطراداتي وينتظرونها كما قالوا لي، ولكنها معطلة. وحلاً لمعضلتي هذه فإنني أكتب ورقة بنقاط الدرس وسطراً أو سطرين عن كل نقطة.
وكنت في البداية أحتفظ بهذه الورقة لنفسي، ولكن الطلاب طلبوا تصويرها للاهتداء بها في المذاكرة، ووجدتها فرصة كي أشترط عليهم أنني لو استطردت فإن عليهم إكمال المذاكرة حتى آخر نقطة في الورقة، فوافقوا!
وعندما قبلت تدريس السيرة النبوية، وفي أول درس وزعت الورقة، ما إن نظر فيها الطلاب حتى تعجبوا وبدأوا الاعتراض! إذ كيف أكتب أن النبي (صلى الله عليه وسلم) وُلد في التاسع من ربيع الأول، وليس في اليوم الثاني عشر منه! وكما قلت مرة كان لديّ طالب تونسي ضيق الأفق لدرجة مزعجة، فلم ينتظر حتى يأتي دوره، ورفع صوته مستنكراً بشكل سمعته الفصول المجاورة.
وكان أمامي حلان؛ إما أن أشرح لهم الموضوع الذي سيزعج منه ولا ريب الناس التي تحتفل بالمولد النبوي في يوم 12 ربيع الأول، ثم من أنا حتى أقول لهم إن كل هؤلاء أخطأوا طوال هذه القرون في تحديد يوم مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) بدقة؟!، أو أن أتغافل وأريح دماغي وأوفر وقت الحصة للموضوع المحدد تدريسه، وأقول للفصل إن هذا خطأ في الكتابة، وسأصححه المرة القادمة إن شاء الله.
وللأسف فقد اخترت الحل الثاني، ولذا ما زلت أشعر بالأسف لهذا الاختيار، رغم أن الموضوع مرّ عليه أكثر من 10 سنوات؛ ولذا أريد تصحيح الموضوع الآن، خاصة أن أغلب هؤلاء الطلاب ما زالوا يتابعونني هنا.
كيفية تحديد تاريخ مولد النبي
الأمر ببساطة أن تحديد تاريخ مولد النبي بالثاني عشر من ربيع الأول ليس صحيحاً من الناحية التاريخية والحسابية؛ حيث يوجد اختلاف كبير بين المؤرخين حول هذا التاريخ، ربما لأن التأريخ الهجري لم يبتكر إلا في سنة 16 هجرية، وكان العرب قبل ذلك يؤرخون بالأحداث الكبرى، كما نفعل في الأرياف المصرية حتى الآن.
وكان الحدث الكبير وقت مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) هو حدت الفيل، فقيل إنه وُلد بعده بشهر، وقيل بأربعين يوماً، وقيل بخمسين، وأقوال أخرى كثيرة لا تستفيد منها إلا أنه ولد في هذا العام الذي يسمى بعام الفيل، ولذا قال خليفة بن خياط في طبقاته: "والمُجمع عليه عام الفيل".
وكذلك يوجد إجماع على أن مولد النبي كان في شهر ربيع الأول، ويمكن أن تُراجع الحديث عن هذا في الجزء الثاني من "البداية والنهاية" لابن كثير.
لكن المشكلة أنه لا يوجد يوم محدد بدقة في هذا الشهر لمولده (صلى الله عليه وسلم). وهنا توجد أيضاً أقوال كثيرة، لكن الثابت أنه يوجد حديث صحيح عن أبي قتادة (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سُئل عن صيام يوم الإثنين فقال: "ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت" (صحيح مسلم).
وفلكياً فإن أيام الإثنين في شهر ربيع الأول سنة 53 قبل الهجرة، وهي السنة التي ولد فيها النبي (صلى الله عليه وسلم)، كانت في الثاني منه، والتاسع منه، والسادس عشر، والثاني والعشرين منه، والتاسع والعشرين أيضاً. أي أن يوم 12 ربيع الأول لم يكن يوم إثنين قط! وبالتالي فمولد النبي لم يكن يوم 12 ربيع الأول وهو اليوم الذي نحتفل فيه عادة بالمولد النبوي!
والسؤال هنا: أي يوم إثنين من هذه الخمسة هو الصحيح؟ طبعاً أنت فهمت مما مر بك قبل قليل أنه يوم التاسع من ربيع الأول، ولكن كيف توصل الباحثون إلى هذه النتيجة؟
الحقيقة أنه باحث واحد هو محمود باشا الفلكي، أكبر عالم فلك مصري في العصر الحديث (نعم هو الذي أطلق اسمه على شارع الفلكي في القاهرة، وكان وزيراً للأشغال في حكومة البارودي سنة 1882، أي أنه كان زميلاً لأحمد عرابي وزير دفاع تلك الحكومة الثورية).
المهم أن لهذا الرجل المدهش مباحث علمية تراثية مدهشة أيضاً، ما زلنا عالة عليها حتى الآن في مجالات عدة، لا في مجال الفلك وحده! وكم أتمنى لو جمعها جامع وحققها حتى لو من خلال رسالة أكاديمية، ومن بين كتب الفلكي الكثيرة كتاب له بعنوان "نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام" (1887)، يقوم فيه بأبحاث فلكية مضنية بناء على المعلومات الواردة في التواريخ المختلفة العربية والأجنبية، ويستخدم كل قدراته الفلكية لتحديد التواريخ الدقيقة للأحداث المهمة في السيرة النبوية وغيرها.
ولو راجعت الفصل الذي يتحدث فيه عن كيفية تحديده الدقيق لتاريخ يوم مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) ستدهش من عمق إلمام الرجل وعظم فطنته! المهم لأنني تعبت، أوجز فأقول إن محمود باشا الفلكي أثبت في نهاية فصله هذا كما قال بنص كلامه: "أن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وُلد في يوم الإثنين 9 ربيع الأول، الموافق 20 أبريل، سنة 571 مسيحية، فاحرص على هذا التحقيق ولا تكن أسير التقليد".
وربما أحكي في مرة أخرى كيف وصل لهذه النتيجة، ويمكن لك أيضاً أن تراجعها هناك. وهذا بالمناسبة يتناسب مع قول جاء في كتاب "الأوائل" للعسكري، (ط الوكيل، ص 35) قال فيه: "وُلد النبي يوم الإثنين لثمانٍ خلَوْن من شهر ربيع الأول، وهو اليوم العشرون من نيسان". والله أعلم بالطبع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.