مرت سنتان على أكثر ثورات الربيع العربي هدوءاً وجمالاً واتزاناً واتصالاً مع الجغرافيا الوطنية، مرت سنتان على شعور العصابة الحاكمة أنها لم تعد قادرة على الاستمرار بالكذب البواح في حماية غنائمها الطائفية وتكريس أن وجودها هو صمام أمان سياسي ومالي واقتصادي لوجود العشيرة المذهبية الغارقة حتى أذنيها بالخوف من الآخر كل الآخر.
تشرين في لبنان لم يعد الخريف المنتظر للبدء بدورة الحياة الجوفاء، تشرين بات الربيع اللبناني الذي كرس معادلة سياسية واجتماعية جديدة لا يمكن القفز فوقها بأي طريقة من الطرق، تشرين اللبناني هو استعادة زمام المبادرة والانتصارات الصغيرة في مواجهة المنظومة وأركانها وانقلاباتها وحروبها الداخلية والخارجية.
وما بقي من تلك الذكرى التي ضاعت، الحقيقة المرة التي ما كان يجب أن ينساها اللبنانيون -باعتبارها أهم من تجمعات الثورة واحتفالات التحدي التي أزعجت جبران باسيل وزملاءه- ولا المسيرات التي شهدتها الشوارع اللبنانية على مدى أيام أو أسابيع قليلة.. هي أن تلك السلطة ومعها النظام الذي يغطيها، عاشا فعلاً وقولاً، أصعب مراحل الخطر والتهديد في زمن السلم الأهلي اليسير في البلاد.
وجائحة كورونا التي اجتاحت العالم استكملت اجتياحها لتقلع معها خيام الثورة، حيث كانت اللحظة التي أخرجت الثائرين والناشطين من الشوارع والساحات ومعارك المواجهة السياسية والميدانية. وكانت الجائحة بمثابة حبل خلاص للمجموعات التي لم تتوصل إلى تشكيل جبهة سياسية من رحم انتفاضة اللبنانيين.
والصراعات السياسية كانت كبيرة بين اليسار صاحب مشروع التأميم واستجلاب الخطاب الماركسي المتآكل وبين اليمين الذي كان يرى أن مشكلة لبنان بسلاح حزب الله واستعداء العالم العربي والدولي للبنان، وبين من يعتقد أن لا خلاص للبنان من دون نزع سلاح حزب الله.
بين الدماء والمصالح
وغاب عن بال ثوار 17 تشرين أن هذه أحزاب المنظومة الممسكة بتلابيب المشهد اللبناني دفعت ثمن سلطتها دماء ألوف من اللبنانيين، ومليارات من الدولارات، إضافة إلى عقود من العمل الدؤوب وتقسيم البلاد لمربعات طائفية ومتاريس عشائرية وبيوت عائلية إقطاعية، وهذا كله مكّن هذه القوى من السيطرة على مفاصل الدولة والمجتمع وكل السلطات كنموذج لبناني عن حكم البعث السوري.
لذا صمدت أحزاب السلطة، مستندة إلى قوة حزب الله العسكرية المتماسكة تماسكاً حديدياً، ومدعومة بطبقة شعبية يروج الإعلام الموجه بما تحتاجه للمواجهة، من أيديولوجيا وخوف عميق من الآخر.
ووفقاً للزميل قاسم مرواني، فإن معظم الذين شاركوا في 17 تشرين، في بيروت خصوصاً، هم من الطبقة الوسطى، هؤلاء كانوا يعيشون حياة جيدة إلى حد ما، لديهم وظائفهم وبيوتهم ونمط حياتهم الجيد.
خرجوا إلى الشارع للمطالبة بحياة سياسية أفضل. بالقضاء على الفساد وبناء دولة يحكمها القانون والمؤسسات، ويعيش فيها أبناؤها بعدالة.
وكان أمراً مثيراً للدهشة والسخرية أن يشاهد هؤلاء "الثوار" جموع الفقراء والمعدمين يتدفقون نحوهم من الخندق الغميق، ومن أحياء الضاحية الجنوبية، ويعتدون عليهم، وسريالية المشهد دفعت معظم "الثوار" إلى اليأس، وأصبحت الهجرة هدفهم الأول.
وإنه وأثناء الحرب الأهلية وبعدها، شهد لبنان موجات هجرة لأعداد كبيرة من أبنائه. وكان أولئك المهاجرون من أصحاب الشهادات والاختصاصيين في معظمهم، ويقبلهم الغرب بصدر رحب.
من بقي في البلد بعد تلك السنوات الدموية العاصفة؟ الميليشيات التي خاضت أجيالها الحروب على المحاور، معتنقة أيديولوجيات أحزابها.
ويتكرر المشهد بعد 17 تشرين 2019. موجة جديدة من الهجرة بدأت، قوامها أيضاً أصحاب الشهادات والاختصاصيون، من أطباء ومهندسين وأصحاب أعمال.
والأهم من ذلك أن هؤلاء تمردوا على الولاءات والانقسامات الطائفية، وعلى أحزابها التي تحاول اختصارهم وترويضهم؛ لذا غادروا ويغادرون البلاد، ويتركونها لأصحاب أيديولوجيات الصهر والقتال على المحاور.
ويقول الأستاذ ساطع نورالدين في شهادته على الثورة أنه ومن دون التورط في الإحالة إلى الربيع العربي، الذي لم يكن في الأصل عنصراً جوهرياً في إطلاق ثورة اللبنانيين ولا في إلهام تحركاتها، كان الهمس يشير بوضوح شديد إلى أن الظرف الراهن، يومها، هو الأنسب والأفضل: العالم كله، تقريباً، يقف مع ثورة لبنانية تكنس أوساخ النظام البالي. والغرب بالإجماع مؤيد لها، ولو بدرجات متفاوتة من الحماسة.
والعرب بمجموعهم الشعبي، وبغالبية أنظمتهم، عدا ثلاثة أو أربعة منها، داعمون لأي تطوير وتغيير في لبنان، يفسح المجال لأجياله الشابة أن تملك زمام المبادرة، والسلطة.
ومن دون التورط في المبالغة، كان الهمس عالياً، بأن القوى السياسية المحلية انكشفت بسرعة يومها، على صورتها الأبشع، الأكثر طائفية ومذهبية، والأشد فتنة وفساداً، بعدما دخلت في مواجهة هي الأشرس فيما بينها على الحصص والمغانم، بحيث كانت وما زالت مستعدة لتقويض البنيان العام للدولة، وتدمير هياكلها على رؤوس الجميع، إذا تعرض أحد مناصبها أو مصالحها للتهديد.
لبنان والديكتاتورية الطائفية
لذا كان اختراق المساحات الشعبية لتلك القوى أسهل من أي وقت مضى، وهو ما حصل بالفعل، لدى مختلف الطوائف، وكان اجتذاب جماهيرها يتم بلا جهد استثنائي، وحتى بلا نداء.
يقول المثقف اللبناني نصري الصايغ إن الديكتاتورية الطائفية في لبنان هي من أعتى الديكتاتوريات العربية، من المحيط إلى الخليج. الطائفية في لبنان أقسى من القمع الرسمي. ارتكبت حروباً دينية ومذهبية وأهلية مراراً، دمرت مدناً وقرى، قتلت عشرات الآلاف، هجرت مئات الآلاف، وخرجت كلها رابحة، بعناية القوى الخارجية ودعمها، وتوزيعها السلطة مجدداً على الطوائف.. صحيح أن الطائفية في زمنها السخي لا تقتل، لأنها تكون مهتمة بجني المكاسب السياسية والمالية.. تسرق ولا تتورع.. تزوّر ولا تخاف.
لا يبدو من التجارب الراهنة أن هناك من هو قادر على ذلك. التيارات والأحزاب الدينية والمذهبية والطائفية متماسكة ومدعومة خارجياً. وهي قادرة على الإمساك بمناطقها ومواقعها. أما الآخرون الذين ملأوا الساحات مراراً وتكراراً، فلم يتمكنوا من وضع لبنة أولى لتكون الخطوة الأولى، لتكوين قوة قادرة على مقارعة الطائفية في مواقعها.
وعلينا التذكير أنه وفي الموقع الذي تجمهرت به أمهات الشياح وعين الرمانة للتلاقي خلال ثورة 17 تشرين وتوزيع الورود عليها لتطوي التاريخ الدموي للأحزاب المذهبية، اشتعلت منذ يومين أسوأ الأحداث الأمنية المتخلية في الصراع اللبناني وعاد الجميع لحظيرة الطائفة، فيما اكتفى ثوار تشرين بإصدار بيانهم المعاد والمكرر دون تحرك يذكر.
إنه التاريخ اللبناني يكتب بدمائنا وأموالنا ووسط سحق المنطق.. يا للأسى!
والسؤال اليوم: هل هناك بديل لهذا النظام، ولهذه القبائل الهمجية التي احتلت الكيان، بتعدد زعمائها؟ تسأل عن الأكثرية العددية اللاطائفية؛ هل هم قادرون على لم شملهم ولو مرة؟ الانهيار الحالي، هو فرصة لكل المدنيين والعلمانيين والديمقراطيين والأحرار، الذين طلقوا الطوائفيات، هي فرصتهم في رسم معالم الطريق الطويل والصعب، والبدء بمسيرة التغيير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.