مَثلٌ لطالما حرص المقاتلون الأفغان على تذكير الأمريكيين به، خلال فترة احتلالهم لبلادهم، الممتدة لعقدين، ومن قبلهم حرصت المقاومة الأفغانية على ذلك مع السوفييت، الذين امتدت فترة احتلالهم لنصف فترة الأمريكيين، ولكن على ما يبدو انقلبت الأمور اليوم، فالساعة غدت بأيدي الحكومة الأفغانية، بينما الزمن بأيدي الأمريكيين، إثر رمي الأخيرين بكرة النار الأفغانية بأيدي الأفغان أنفسهم، ومن خلفهم القوى الإقليمية المجاورة.
وبقدر استعجال الحكومة الأفغانية التي شكّلتها طالبان في كابول لكسب اعتراف دولي، والإفراج عن أرصدتها المجمدة في أمريكا، وضخ مساعدات إغاثية عاجلة لشعب غالبيته في حالة فقر وعوز، بقدر شعور الأمريكيين أنهم ليسوا في عجلة من أمرهم، بل غدوا في حالةٍ كمن أمسك بيدِ عدوه الطالباني من مكان جرحه العميق المؤلم.
فمن كان في الخنادق بالأمس تختلف مسؤوليته تماماً عما هو عليه اليوم في الفنادق، متربّعاً على هرم سلطة استحقاقاتها الداخلية والخارجية كبيرة، فضلاً عن ضعف خبرته بشعب لم يعهده طوال عشرين عاماً، جرت في غيابه مياه كثيرة، فغيّرت أنماطاً وسلوكيات، وأولويات، وفرضت جيلاً جديداً جداً على المجتمع الأفغاني، ثقافة وسلوكاً ونمط حياة، فمن كان عمره يوم سقطت طالبان خمس سنوات، بات اليوم عمره 25 عاماً، فهناك جيل كامل لديه انشغالاته وطموحاته واهتماماته، التي قد لا تكون متفقة ومتناسقة تماماً مع الحركة ومشروعها.
لا يزال طرفا اتفاق الدوحة وهما الولايات المتحدة الأمريكية، وحركة طالبان الأفغانية، يُحمّلان بعضهما بعضاً مسؤولية الانسداد السياسي الحاصل. فواشنطن ترى أن الحركة لم تفِ بوعودها في تشكيل حكومة شاملة، تضم كافة الأطياف الأفغانية، ولم تحترم حقوق الإنسان في أفغانستان، وعلى رأسها -كما تقول- حقوق المرأة في التعليم والعمل.
بينما على الطرف الآخر تُحمل طالبان واشنطن مسؤولية عدم الاعتراف بالحكومة الجديدة، طبقاً لاتفاق الدوحة، وتُرجع حالة التدهور المعيشي للشعب الأفغاني، لعدم الاعتراف بها، ولتجميد 9 مليارات دولار تابعة للبنك المركزي الأفغاني في واشنطن، فضلاً عن الضغط الأمريكي على حلفائها الإقليميين والدوليين، بعدم التعاون مع الحكومة الأفغانية الجديدة.
الظاهر أن واشنطن قد لجأت إلى أساليب التسويف والتأجيل في التعاطي مع حركة طالبان، مُفسحة المجال للزمن الكفيل -باعتقادها- في إفشال الحكومة الأفغانية الجديدة، نتيجة عدم تعاون المحيط الإقليمي معها، يعززه حالة معيشية صعبة للغاية في أفغانستان، ما قد يُطلق حالة تذمر تتمظهر في مظاهرات واحتجاجات، ما يسهل على المعارضة الأفغانية استغلاله، لاسيما إن حظيت بدعم إقليمي ودولي، الذي بذرت بذوره أخيراً كما يبدو.
حلف نيودلهي
المعلومات المتوافرة حتى الآن تتحدث عن تحالف شبه إقليمي ودولي يجري التحضير له في نيودلهي، ويتولى أمره مدير المخابرات الهندية (راو)، بالإضافة إلى مديري المخابرات في كل من بريطانيا وأمريكا وروسيا، على أن تنضم للحلف إيران، كما وعدت روسيا بذلك، حيث من المتوقع أن يزور وزير خارجية إيران أمير عبد اللهيان نيودلهي قريباً.
وبحسب التسريبات فإن نيودلهي تكفلت مع بريطانيا بتنسيق جهود التحالف الشمالي، الذي يحظى بعلاقات تاريخية معها، على أن يكون نشاطها في الشمال الأفغاني، مقابل أن يكون نشاط المخابرات البريطانية في جنوب غرب وجنوب شرق أفغانستان، نظراً لعلاقاتها ووجودها التاريخي فيه لعشرين سنة، ومن المقرر أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام قاعدة لدّاخ الهندية القريبة من الحدود الباكستانية والأفغانية، لمراقبة أفغانستان، عبر طائرات الاستطلاع، وهو ما أقلق باكستان، فسعى مدير مخابرات السي آي إيه ويليام برنز لتهدئة الباكستانيين في زيارته الأخيرة إلى إسلام آباد، لكن بكل تأكيد القلق الباكستاني لن يهدأ، وسيتضاعف.
على الصعيد الأفغاني الداخلي ينصب التوجه الهندي الآن على تشكيل حلف أفغاني معارض، يقوده عبد رب الرسول سياف، الذي غادر إلى الهند عقب سقوط كابول بأيدي مقاتلي طالبان، ولكن على ما يبدو مثل هذا يلقى معارضة من معسكر وزير الخارجية السابق صلاح الدين رباني، ومن المقرر أن يضم الحلف كل شركاء الحكومة الأفغانية السابقة وأعضائها، كما يتوقع أن تكون طاجكستان منطلقاً لهذه النشاطات، وهي التي تستضيف الآن أكثر من 15 ألف لاجئ أفغاني، بالإضافة إلى استضافتها رموز المعارضة الشمالية، وتتفاوض معها واشنطن الآن من أجل نقل حوالي عشرين مروحية أفغانية، فرّت خلال سيطرة طالبان على السلطة إلى أوزبكستان، ليُصار إلى صيانتها من أجل استخدامها مستقبلاً من قبل المعارضة الأفغانية، إن هي أعلنت الحرب على طالبان.
ظلّت أفغانستان في معظم فترات تاريخها بمرحلة "الترانزيت"، ويبدو أن المرحلة الحالية ليست نشازاً، فهي استمرار لتلك المرحلة. الكل يمارس اليوم عضّ الأصابع، فمن سيصرخ أولاً، فلا الأمريكيون على ما يبدو في مزاج التعاون مع طالبان؛ إذ يحاولون الانتقام بالسلم مِمَّا ذاقوه وقت الحرب مع طالبان، ولا الحركة مستعدة للتنازل على ما يبدو لخصومها من التحالف الشمالي المتماهي مع التحالف الغربي والإقليمي، الذين ظلوا وإياه طوال عشرين عاماً في حالة تنسيق وتماهٍ خلال الحرب مع طالبان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.