خطاب سياسي “عنيف” وإقحام للأطراف الخارجية.. هل يفشل التحول الديمقراطي في السودان؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/17 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/17 الساعة 12:26 بتوقيت غرينتش
محمد حمدان دقلو "حميدتي"، النائب الأول لرئيس مجلس السيادة السوداني - رويترز

برز إشكال العنف في الخطاب السياسي إبان الفترة الانتقالية في عملية الانتقال والتحديث الديمقراطي التي يمر بها السودان، ما أدى إلى تَشَكُّل اصطفافات (سياسية، أيديولوجية، اجتماعية، جغرافية) بصور وأشكال مختلفة كنتاج لتراكمات أيديولوجية ظلت ماثلة لفترات وحقب زمنية مختلفة. ما سمح بتشكل خطاب سياسي يتسم بالعنف والتعنيف، من قبل التحالف الممسك بمقاليد الحكم الانتقالي بالسودان، وانعكس ذلك بصورة واضحة على شكل وطرائق الممارسة السياسية.

عنف الخطاب السياسي 

العنف في اللغة هو العنف الذي تمارسه على الإنسان، وهناك عنف متأصل في اللغة يسمى "بالاستعارات التصورية"، ويصفه لايكوف بـ"الاستعارات القاتلة"، إذ يقول: توجد استعارات ومجازات على درجة كبيرة من العنف، والتي تسبق الحروب.
ماهية الخطاب السياسي السوداني اليوم مثقلة بالألفاظ والاستعارات العنيفة، دون وجود حل متزن على أقل تقدير لضبط الممارسة السياسية واتجاهاتها، وهو ما يعيق مسار الانتقال الديمقراطي في السودان.

تَخَلَّق هذا النمط من "التعنيف" للخطاب السياسي في السودان خلال حكم الأنظمة التي تعاقبت على عرش السودان، بتبنيها ذلك الاتجاه الاستبدادي والسلبي. وراهنية الممارسة السياسية في الفترة الانتقالية بعد غياب الرؤية الكلية للمشروع السياسي لإعلان قوى الحرية والتغيير، تشير إلى نُذر التمزق والتفكك، وتهدد وتنسف ما هو موجود من مُمسكات اللُّحمة الوطنية من كيان الدولة والمجتمع خلال الفترة الانتقالية بالسودان. 

منذ انطلاق حراك ديسمبر (كانون الأول) وإلى حين التوافق والاتفاق على شراكة أفضت إلى تشاطر السلطة بين المدنيين والعسكر في المرحلة الأولى، والمجموعات الموقّعة على "وثيقة جوبا" كمرحلة ثانية وتابعة لمنظومة اقتسام السلطة والثروة في السودان، منذ ذلك الحين يتم التعاطي مع بنية السودان بصورة هشة وسطحية وعنيفة.

رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مع حميدتي واعضاء المعارضة السودانية أثناء توقيع اتفاق تسليم السلطة/رويترز

كانت ترنو جموع الشعب السوداني لأن تُنتج هذه الثورة رؤية جديدة ومختلفة لوضع السودان في مسار الاستقرار في اتجاهات البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن التغوّل على مكتسبات الثورة جعل الثورة "تفقد هويتها" أمام الثورات التي تشكَّلت في المنطقة. وصار تعنيف الخطاب السياسي في الفترة الانتقالية هو محاولة لحصد مكسب سياسي، وإقصاء أحد أطراف العملية السياسية في مقابل التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي، كمحاولة لخلق ولاءات واستقطابات جديدة تكون داعمة للعامل الخارجي.

أثّر تعنيف الخطاب السياسي الذي يُمارسه التحالف المُمسك بمؤسسات الفترة الانتقالية، تجاه التيارات المناوئة والرافضة لممارسات قوى الحرية والتغيير وأذرعها المختلفة، التي تحاول أن تخلق واقعاً جديداً من خلال التمدد في النظم الإجرائية من جانب، وبروز الخطاب الجغرافي كنتاج لخطاب مركزي تمارسه مكونات التحالف الممسك بمؤسسات الفترة الانتقالية من جانب آخر، والذي سيُسهم بصورة كبيرة في استدامة عدم الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، وإنجاح أي مشروع اقتصادي مطروح، وبدوره ينعكس على تعطيل عملية التحول الديمقراطي مستقبلاً.

ترقب داخلي 

ظلّ الشارع السوداني منذ الاستقلال في حالة ترقب لنظام ديمقراطي سوداني بإرادة وطنية، من خلال التوافق على دستور أو صيغة حكم دائمة يتفق عليها النادي السياسي، عبر إشراكه للمكونات المختلفة من أصحاب المصلحة في مناطق السودان المختلفة، والقوى السياسية الفاعلة، والجماعات المشغولة بالقضايا العامة، ما يُعزز وضع لبنات موضوعية للإجابة عن الأسئلة المعنية بصياغة نموذج سوداني، والقضايا الملحة التي ظلت محل جدلية البحث عن الدولة وهوية نظام الحكم والمأزق التنموي عقب الاستقلال، بعكس ما نحن عليه الآن من ضياع وتبديد لقيم البناء، بما يضع البلاد في مسار لا يتوافق مع تحقيق السلام والاستقرار وإحداث فعل تنموي مستدام.

عجز الممسكون بمؤسسات الحكم الانتقالي عن تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ودفع عجلة النمو الاقتصادي، وتهيئة المناخ المواتي والمناسب، بأن تعمل البنية السياسية والاقتصادية على دعم عملية التحول الديمقراطي.

وأسفرت اتجاهات الأحداث عن مآلات سالبة للأوضاع في السودان، كنتاج لغياب الرؤية والإرادة في إحداث تقدم في البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بصورة واضحة على أقل تقدير. وهو ما عجز عنه التحالف الممسك بمؤسسات الفترة الانتقالية، بمجابهة التحديات المستجدة والتعامل مع التطورات الحادثة لإيجاد حلول للإشكالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإتاحة بعض القوى السياسية الباب موصداً أمام التدخلات الأجنبية في الشأن الداخلي لمسار الانتقال الديمقراطي.

ذلك أشبه بما سمّاه الفيلسوف مالك بن نبي والمفكر عبد الوهاب المسيري "القابلية للاستعمار وإشكالية التحيّز"، فما تشهده الفترة الانتقالية من أشكال التدخل في الشأن الداخلي يعتبر في أسوأ حالاته ومراحله أشبه بنمط تدميري للتحول الديمقراطي، على أثره خلَّف حالة صراع محتدم بين القوى السياسية، وبدوره أنتج حالة من اللاتعاون بين شركاء الحكم الانتقالي.

تواجه الفترة الانتقالية على إثره تعنيف الخطاب السياسي، وتوجيهه ظواهر مستعصية على الحل بسبب غياب الإرادة السياسية من جانب، ووجود اتجاه جاد لتفكيك مسببات الاحتقان القائم من جانب آخر، بما يسهم في تحقيق استقرار سياسي مستدام للفترة الانتقالية.

اتجاهات الصراع ومحفزاته

لعب الخطاب السياسي المعنف دوراً بارزاً في تأجيج النزاعات الأهلية بين المكونات الاجتماعية والسياسية، وهو ما زاد من وتيرة عمقها بتفشي ظواهر سالبة ومتلاحقة "كحالة اللااستقرار للاحتجاجات المطلبية الداعية لتصحيح اتجاه الثورة ووضعها في مسارها، بحيث تتسق مع ما جاءت به ثورة ديسمبر، نحو تحقيق الحرية والسلام والعدالة.

والأدوار المختلفة التي يلعبها التحالف الحاكم للفترة الانتقالية، والمعارضة المشاركة في صنعها، والأساليب والوسائل التي تلجأ إليها كل فئة في إدارة الصراع لتحقيق غاياتها هي رغبة هذه القوى السياسية في التغول على مؤسسات الانتقال، وضرورة التمسك والتواجد بمؤسسات الانتقال دون أن تكون لديها أي رؤية لوضعية الانتقال ومكوناته، لضمان تعزيز نفوذها مستقبلاً إبان التحول الديمقراطي، دون أي نتائج مترتبة على الطريقة التي تلجأ إليها تلك القوى لإحداث التغيير وتحقيق الإصلاح في المستويات المختلفة لمؤسسات الانتقال.

إن مسار تلك الصراعات السياسية وتفاعلاتها والقوى المحركة لها تُحتم إيجاد محاولات للإصلاح السياسي، بالمُضّي قدماً نحو تحقيق الغايات بإيجاد معادلات وسيطة لعمل النادي السياسي والأنظمة التي تعاقبت على الحكم، إلا أن ذلك لم يكن ممكناً بفعل الإرادة والرغبة الدافعة نحو تحقيق ذلك، وصراع النخب الداخلي، داخل مكوناتها المختلفة، بأن أنتجت ذهنية من الفاعلين سياسياً تنظر لأفق القضايا الوطنية الملحة، بإطار محدود ورؤية قاصرة على تجربتها، والذي قاد لتأطير الصراع وبلورته لمأزق مستدام للقضايا المختلفة، فالاتجاه نحو الصراع هو المحاولة لفرض الأجندة "قوى سياسية على أخرى"، ومحصلة هذا الصراع هو الاستمرار في ديمومة عدم الاستقرار السياسي، دون التوافق على حد أدنى على أقل تقدير بين القوى السياسية المتشاكسه منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا.

المراجع:

– تيم نبلوك، صراع السلطة والثروة في السودان منذ الاستقلال ومن الانتفاضة، ترجمة الفاتح التجاني ومحمد علي، الخرطوم، دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع، 2019، ط2.

– عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياتة دراسة نظرية وتطبيقة مقارنة، قطر- الدوحة، المعهد العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020.

– ديفيد هيلد، نماذج الديمقراطية، ترجمة فاضل جتكر، العراق، بغداد، معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عثمان آدم
كاتب وباحث سوداني
كاتب وباحث سوداني
تحميل المزيد