لم يكن ينقص لبنان إلا صدامات مسلحة كي ينزلق أكثر إلى عمق الهاوية. لم يكن ينقص حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلا أحداث الطيّونة التي بلغت عين الرمانة وجوانب فرن الشباك، والحدث وكفرشيما كي تبلغ الشيخوخة قبل أوانها.
لم يكن ينقص بيروت إلا موجات تهجير جديدة، بعد التهجير القسري والكبير إثر انفجار مرفأ بيروت الذي استحال التحقيق فيه فتيل انفجار جديد لاحت أولى شراراته خلال أحداث يوم الخميس الدموي والذي سقط ضحيته 7 قتلى وأكثر من 30 جريحاً، منهم من هو في حالة خطرة.
أجواء مشحونة وحشد
كل شيء ابتدأ مع جلسة مجلس الوزراء في قصر بعبدا يوم الثلاثاء 12 أكتوبر/تشرين الأول؛ حيث تولى وزير الثقافة محمد وسام مرتضى، نقل توجيهات الثنائي الشيعي بضرورة تنحية القاضي طارق البيطار عن مهامه.
سبق ذلك حديث السيد حسن نصر الله مساء الإثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول؛ حيث قال إن "عمل القاضي الحالي (طارق البيطار) استنسابي وفيه استهداف سياسي ولا علاقة له بالعدالة"، متوجهاً إلى أهالي ضحايا انفجار المرفأ، قائلاً: "لن تصلوا إلى العدالة مع القاضي البيطار الذي يشتغل بالسياسة ويوظف الدماء في خدمة استهدافات سياسية".
بعد تأجيل جلسة مجلس الوزراء الثانية طفا إلى السطح خلاف بين الحليفين حزب الله والتيار الوطني الحر حيث نقلت صحيفة محلية نصاً حرفياً قاله مستشار رئيس الجمهورية ووزير العدل السابق سليم جريصاتي يقول فيه: "نحن واصلة معنا لراس مناخيرنا من حزب الله"، ورد حزب الله عبر مصادره بالقول: "نحن اللي طالعة معنا لراس مناخيرنا".
مساء الأربعاء، تم ضخ كم من الأخبار والشائعات والحديث عن شارع مقابل شارع وتحشيد مقابل تحشيد إلى أن حصل المحظور.
الحكومة: لا جديد
وبعد، لم تأت هذه الأحداث من فراغ، فحكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي تألفت في العاشر من أيلول- ومن الظلم اتهامها بالعجز بعد شهر ونيف- غير أنها لم تتمكن من الإقلاع بأي ملف إلى الآن، فلا الكهرباء تحسنت أو لاحت سبل معالجة مشكلتها، والدولار واصل ارتفاعه ليصل سقوفاً عالية، والنقاش مع صندوق النقد يحتاج لتضحيات من المصارف والبنك المركزي.
ولا يبدو أن الحكومة قادرة على ممارسة ضغط عليهم، والمشتقات النفطية الإيرانية تعبر الحدود من معابر غير واقعة تحت سيطرة السلطة المركزية، أما التحقيق بانفجار المرفأ فكان عُرضة لضغوط سياسية هائلة لم تستطع الحكومة مجابهتها، وقد بلغ الأمر برئيس مجلس النواب أن يمهل رئيس الحكومة 45 يوماً للنجاح أو الفشل مشتكياً من "التلهي بالتعيينات، ورغبات بعضهم بالسيطرة على هذا الموقع أو ذاك"، وذلك بعدما صرح ميقاتي نفسه قبل ذلك بيومين بأن "العين بصيرة واليد قصيرة".
يجري كل ذلك في الوقت الذي يتردد فيه أن اجتماعاً سعودياً إيرانياً عُقد في أبو ظبي وتم التطرق فيه إلى ملف لبنان دون أن ترشح معلومات أكثر، ويجري كل ذلك والأمريكي بات متحمساً أكثر لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة وهو ملف شديد الاستراتيجية للمنطقة كلها.
ما علاقة ملف الترسيم ونائبة وزير الخارجية الأمريكي؟
ويعتقد الأمريكيون أن لبنان بات جاهزاً بسبب إنهاكه أولاً وبسبب قبول الرؤساء الثلاثة الحاليين بمبدأ الترسيم وفق الخط ما دون الـ29، ثانياً يخرج عون بإنجاز، والرئيس نبيه بري هو راعي اتفاق الإطار، والذي ينظر إلى الخط 29 (إضافة 1430 كلم إلى الـ863 كلم) على أنه خط تفاوضي لا أكثر، فيما وضَعَ ميقاتي منذ عام 2011 هدفاً له بتثبيت الخط 23، أي مطالبة لبنان بـ863 كلم فحسب.
اندلعت أحداث بيروت بالتزامن المريب مع زيارة نائبة وزير الخارجية الأميركي، فيكتوريا نولاند إلى بيروت، والتي تمهد لزيارة آموس هوكشتاين المكلف بإحياء مفاوضات الترسيم خلال الأسبوعين المقبلين.
وعلى الرغم من بيانات التهدئة التي صدرت من الثنائي الشيعي وكلام رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، يبقى الوضع الأمني عرضة للاهتزاز لأسباب محلية وأبعد من المحلي.
إلى أين؟
تتخوف مصادر دبلوماسية متقاطعة ومطلعة في آن، من انزلاق لبنان إلى مخاطر أكبر وأوسع، مخاطر تزيد الوضع تعقيداً وترتبط بمتغيرات إقليمية قيد التبلور من العراق إلى سوريا وتعتبر الأيام القليلة المقبلة تحتاج لمتابعة حثيثة لتلمس المسار الذي ستسلكه الأحداث، وهي إذ تستغرب الحدة التي يتميز بها موقف حزب الله من القاضي طارق البيطار بشكل غير متناسب مع قوة الحزب، والعمل الاحترافي والعلمي وغير المنحاز لقاضٍ يبقى فرداً في جسم قضائي وسياسي مترهل.
ولمن لا يتذكر، بعد مجزرة عين الرمانة في 13 إبريل/نيسان 1975 صدرت دعوات للتهدئة لكنها لَمْ تلقَ آذاناً صاغية وانزلق لبنان إلى حرب لما تنتهي حتى يومنا هذا ولو بأشكال مختلفة، وما جرى اليوم على مستديرة الطيونة ومتفرعاتها يستطيع أن يكون مقدمة لأية حرب أخرى.
تجاوَزَ حزب الله أحداث خلدة، وتجاوز بعدها حادثة شويا، أما اليوم فالضحايا بمعظمهم من حركة أمل فكيف يمكن أن تكون ردة فعل الحركة التي لا يتمتع منتسبوها بنفس مقدار الالتزام والانضباط بقرار القيادة؟
هل من مصلحة أحد من مكونات الحكومة الميقاتية إسقاطها؟ قد تكون أحداث 14 أكتوبر/تشرين الأول سبباً لمحاولة إعادة إطلاق عملها ولو بعد مجزرة بالمعنى الحقيقي.
يقيناً أن الوضع في لبنان لن يكون على ما يرام، ويقيناً أن التحقيق بانفجار المرفأ تعرض لنكسة هي الأقوى، ويقيناً أن هذه الحكومة لن تستطيع ولا كل المكونات السياسية في لبنان من اجتراح حلول ترفع البلاء وتنهي أياً من الأزمات.
لكن تبقى الحكومة ضرورة إلى أن تتضح التسويات التي لم نعتد عليها إلا "على الحامي".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.