اشتعل الشارع اللبناني من جديد، وكأن البلد المثقل بالهموم الاقتصادية والاجتماعية لا يكفيه ما يعانيه.
بعد أن فشلت المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان بكف يد قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، بالطرق القانونية، لجأت لمجلس الوزراء الذي لا يتمتع بصلاحية إيقاف البيطار عن مهمته. وبلهجة عالية النبرة تناوب مسؤولو وسياسيو لبنان على مهاجمة القاضي من النائب السابق سليمان فرنجية إلى الوزير خليل فالمشنوق وغيرهم.
ولكن كان الأبرز هو إفراد السيد نصر الله مساحة كبيرة من خطاباته الأربعة الأخيرة للهجوم على القاضي متهماً إياه بتسييس التحقيق.
إن المشهد الذي يتكرر دائماً في السياسية اللبنانية وهو توحد الطبقة السياسية في وجه أي خرق للمنظومة مجتمعة، أتت لتتفاعل أكثر تحت مظلة التغيرات الإقليمية والانتخابات النيابية اللبنانية القريبة. فتشكيل الحكومة الأخير والضغط الدولي والتقارب الإيراني الفرنسي أبطل محاولات تأجيل الانتخابات أو إلغائها.
وعلى غير العادة لم تنجح لغة الترهيب بـ"قبع" البيطار، كما سبق أن وعد مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا قبل ثلاثة أسابيع، فأتى التصعيد في الشارع اليوم كردة فعل على المشهد عامة، واستدعاء اليد اليمنى لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل الأستاذ نبيه بري، الوزير علي حسن خليل، خاصة، فكانت الرسالة إما تطيير التحقيق أو تطيير البلد.
هذه الطريقة ليست جديدة في لبنان، فعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري "تجرأ" أحدهم على طرح المحكمة الدولية، فأتى العقاب بتوالي الاغتيالات حتى أتت نتيجة التحقيقات، بعد حمامات من الدم، باهتة لا تحوي سوى اسم لا أكثر. بعدها تجرأ الرئيس السنيورة والوزير جنبلاط على المس بشبكة اتصالات حزب الله، ففتحت النار على بيروت واقتيدت القوى السياسية إلى الدوحة لتهدئة الأجواء في بيروت ولتثبيت قاعدة حكم الفريق الأقوى.
من جديد، وبعد اشتعال الاحتجاجات اللبنانية في 17 أكتوبر/تشرين، ولأن التظاهرة كانت أكبر من المتوقع وجهت أصابع الاتهام لها بأنها "ثورة العملاء، الزعران وأتباع السفارات". وعلى شظايا الهجوم على 17 تشرين أتى انفجار المرفأ بالفاجعة الكبرى التي أودت بحياة أكثر من 200 إنسان ومئات الجرحى ودمار لا يوصف.
عندها انفعل اللبنانيون مطالبين بتحقيق دولي لكشف خيوط الجريمة، إلا أن "الدهاليز" التي قتلت فاعلية التحقيق الدولي السابق لم تكتفِ بالإطاحة بفكرة تشكيل محكمة دولية للتحقيق بقضية انفجار المرفأ، بل أطاحت بالقاضي "صوان" الذي عين لتولي مهام التحقيق.
لكن على غير المتوقع، أتى الخلف أشرس من السلف فلم يكتفِ بتوجيه الاستدعاءات للصف الثالث والرابع بل "تطاول" على الصف الأول ليصل به الأمر أخيراً لإصدار مذكرة جلب بحق الوزير علي حسن خليل. وكان القاضي بيطار قد استدعى أيضاً رئيس مجلس الوزراء السابق حسان دياب وعدة وزراء آخرين ينتمون لمختلف القوى السياسية.
إن المشهد الذي يتكرر دائماً في السياسية اللبنانية وهو توحد الطبقة السياسية في وجه أي خرق للمنظومة مجتمعة، أتت لتتفاعل أكثر تحت مظلة التغيرات الإقليمية والانتخابات النيابية اللبنانية القريبة. فتشكيل الحكومة الأخير والضغط الدولي والتقارب الإيراني الفرنسي أبطل محاولات تأجيل الانتخابات أو إلغائها.
بشكل عام، تخاف الطبقة السياسية مجتمعة من خرق يمكن أن يحدث للمجلس النيابي من مجموعات مستقلة خارج منظومة المحاصصة التقليدية. عليه، يحاول حزب الله وحركة أمل شد عصب الطائفة الشيعية باتهام البيطار وما يسمى بقوى الثورة بأنهم عملاء إسرائيل وأمريكا، لأن أي دليل يظهر انغماس الثنائي الشيعي بقضية المرفأ قد يضعف موقفه في الداخل أو قد يسبب له إزعاجاً هو في غنى عنه، إضافة لتعكير صفو تحسين العلاقة مع الغرب الذي ينظر باهتمام لتحقيقات المرفأ.
على الضفة الأخرى من العالم العربي، وعلى الرغم من عدم وصول أعداء إيران لحكم العراق، فإنها لم تستطع إيصال حلفائها المفضلين للحكم. لذا، لا يريد المحور الإيراني أي تراجع له في لبنان مهما كان لما لحزب الله من أهمية لدى إيران في صراعاتها كما في مصالحاتها الإقليمية. أما داخلياً، وفي الشارع المسيحي الأكثر تأثراً بانفجار المرفأ، فقد أصبح جلياً تصدُّع تيار الرئيس عون وتسارع باقي القوى لحيازة المقاعد التي ستتساقط من التيار الوطني الحر.
تؤمن القوات اللبنانية التي حاولت احتواء أضرار الأزمة منذ البداية، بانسحابها من الحكومة، بأنها الأقل تضرراً من المشاكل المعيشية المتوالية، إلا أن رفع السقف في وجه حزب الله لأعلى درجة مفيد لها لما يجلب لها من دعم غربي من جهة وسعودي خليجي من جهة أخرى، كما أنه يبعث برسالة داخلية مفادها "أنا من يستطيع مواجهة حزب الله والنظام القائم لا أحزاب الثورة الجديدة".
في ظل هذه الأجواء، وبغياب المكون السُّنِّي بشكل شبه كامل، نظراً لغياب الدعم الخليجي المعتاد، احتدم الخطاب بين القوات التي تقدم نفسها حامية للقانون بدفاعها عن القاضي بيطار بشراسة وبين الثنائي الشيعي الذي لن يرضى باستكمال التحقيق.
تسارعت الأحداث فأنتجت صراعاً في الشارع بين قوة تريد تذكير الشارع بأنها صاحبة الكلمة الفصل في البلاد، وقوة على النقيض توصل رسالة بأنها "المقاومة اللبنانية في وجه الإيرانية،" إن بشكل مباشر عن طريق تحريك شارعها، أو بشكل غير مباشر عن طريق تأجيج مناصريها وبيئتها الحاضنة. عليه، يستفيد الطرفان وأطراف أخرى من صراع الشارع، لأنه يعود ليشد العصب قبيل الانتخابات ولو على أشلاء بضعة شبان هنا أو هناك.
ستنتهي المناوشات، لكنها ستعود؛ لأنها انتهت بلا حل أو لأنه يراد لها ألا تنتهي، فتكون الرسالة بضرورة ربط الأحزمة والعودة للمعسكرات الطائفية والأحزاب التقليدية الحامية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.