ذات مرة، في مراهقتي، وقبل اكتشاف منيرة المهدية وقبل أي أحد، اكتشفت أغنية وردة "حكايتي مع الزمان"، وكان وقعها على أذني كالسحر، كنت وقتها تعلمت كيفية استخدام الحاسب والدخول على الإنترنت، وكانت لدينا سماعات أذن بسلكين أخضر وأسود، كنت أعود من المدرسة يومياً وأضع السماعات وأشغل الأغنية، ألعب في خصلات شعري وأدندن:
"أنا.. أنا اللي بينكم هنا.. رضيت بالعذاب.. لحد ما قلبي داب.. ولا دُقت هَنا أنا.. وأنا.. ياما تحملت أنا.. قسيت ولا اشتكيت.. ولا جيت في يوم بكيت.. منه لكم أنا".
ولأن الأغنية رومانسية وحزينة، وصوت وردة جريح وغير مطمئن أبداً، قلقت أمي، وجاءت سحبتني من يدي، وقالت ممنوع سماع وردة وهذه الأغنية مرة أخرى، ومشاهدة الكرتون أفضل.
لكن ما حدث قد حدث، واحتلّني هذا الشغف اللذيذ، الرغبة في سماع الأغنيات الرومانسية القاسية، والتأثر بها بلا سبب منطقي، هذه الأيام ينشر الناس على السوشيال ميديا عبارات ساخرة على تأثرهم بهذه الأغاني، لكن يبدو أن الأمر بدأ معي مبكراً جداً، والحق أنني متأكدة أنه موجود منذ سالف العصر والأوان، وأنه في كل زمان كانت هناك مطربات جريحات الصوت تغنين بحزن ودموع عن الحبيب القاسي الذي يكسر قلوبهن.
في مطلع العشرينات في الإسكندرية، حيث تجمعات أهالي الأسر الأرستقراطية للمصيف في يوليو وأغسطس، وحيث تجمعات الطبقة البسيطة في بحري وكرموز لشرب الشيشة، نشأت مطربة غنت كذلك لقلب الفتيات المجروحات من "تقل" الصِبية والرجال، تغني منيرة المهدية فتقول:
"والنبي يمَّا تعذريني تأنِّي عليَّ،
آه حُبِّ حبيبي شاغلني لأني رايحة، ولا جايَّة
والنبي يمَّا
أشوف حبيبي عالطريق يتمختر
العين سودا سودا والخديد ورد أحمر
طلبت وصله قال حاضر لما نسهر"
وتظل هكذا طوال الفلكلور تبحث عن حبيبها وتخطب وُدَّه، لكنه يتجاهلها فتذهب لتعتذر لأمها وتطلب السماح بخروجها كل صبحية وأمسية لتنتظر رؤية الحبيب ذي الخد الوردي.
مولدها ونشأتها
في بودكاست إذاعي يتم إنتاجه بالتعاون بين مؤسسة التوثيق والبحث والموسيقى العربية ومؤسسة الشارقة، تحدث الدكتور :"فريدريك لغرانج" عن عدم تأكد ووضوح المصادر حول مولد الست منيرة المهدية، هناك أسطورة تقول إنها ولدت بقرية تسمى المهدية وهذا هو سبب تسميتها بذلك؛ إذ إن اسمها الحقيقي هو زكية منصور غانم، لكن المعلومة غير مؤكدة.
وكما منعتني أمي من الاستماع إلى الأغاني العاطفية في مراهقتي، منع أهل الست منيرة المهدية صعودها إلى التخت أو إلى خشبة المسرح للغناء، وقاموا بشن حرب ضدها واستخدموا في ذلك الحكومة كي تقوم بمنعها كونها لا زالت قاصراً، لكن في لقاء تلفزيوني على ماسبيرو زمان تحكي منيرة المهدية أن الحكومة رفضت إصدار أوامر بإيقافها، معللة ذلك بأنها تقوم بلعب أدوار تاريخية في مسرحيات محترمة مترجمة عن الإفرنج.
في لقاء إذاعي نادر مع الست منيرة المهدية- لم أستطع للأسف معرفة تاريخه أو حتى اسم المذيع الذي استضافته الست في بيتها- تحدثَت عن نشأتها، فقالت إنها جاءت مصر وهي ابنة عامين، وكانت تسكن مع أختها الكبرى التي تزوجت من صالح بيه ابن رشوان باشا، وأنها ذهبت بصحبتهما للعيش في مركز "بِبَّه" في بني سويف، ثم انتقلوا جميعهم للقاهرة للعيش في السرايا التي يملكها البيه التي كانت قابعة آنذاك في الناصرية بحي السيدة زينب.
وحكت أيضاً أن والدها كان يعمل كقبطان، لكنها لم تجب في هذا اللقاء عن اسمها كما لما تجب عنه كذلك في اللقاء التلفزيوني. قالت إنها لا تذكر أي شيء قبل وجودها في الإسكندرية، ولذلك لا نستطيع تحديد سنة مولدها على وجه الدقة، لكن بحسب حديث الدكتور فريدريك فقد ولدت منيرة بين عامي ١٨٨٥ و١٨٨٨ ومن المرجح أنها ولدت في عام ١٨٨٥ وهو الموثق على المواقع الأرشيفية.
لم يكن الغناء مهنة مشرفة في تلك الأزمنة، خاصة للفتيات، ولذلك حين سمعت العالمة السيدة اللوندية أشهر عوالم ومطربات ذلك الوقت صوتها بالسرايا وقالت لأختها إنها حين تكبر ستصير ذات صوت لا يتكرر نهرتها أختها وقالت: غُنا إيه ياخْتي.. متفتّحيش عين البت.
بداية منيرة المهدية مع الغناء
بداية الست منيرة محيرة وغير مثبتة بالوثائق التاريخية؛ هناك رواية تقول إنها بدأت الغناء في الزقازيق ثم اكتشفها صاحب ملهى في القاهرة وأغراها بالغناء معه في العاصمة، كان اسم الملهى "نزهة النفوس"، لتجلس على التخت الخشبي وتغني طقطوقات ممُصّرة من اللهجة الشامية.
لكن هذه الرواية تتعارض مع رواية الست منيرة نفسها القائلة بأنها انتقلت للقاهرة للعيش في سرايا صالح بيه رضوان ثم اكتشفتها بعد ذلك الراقصة اللوندية، لكن لا يمكنني ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى؛ وذلك لأن اللقاء كان في فترة متأخرة جداً من حياة الست منيرة، وقد كانت هرمة ويبدو عليها التعب والكهولة ولم تتمكن من تذكر تفاصيل كثيرة تخص حياتها.
لذلك لا يمكن الوثوق بكيف ومتى وصلت للقاهرة، لكن المؤكد في كلتا الروايتين أنها عملت أول الأمر في ملهى نزهة النفوس، وأنها منذ وضعت قدمها فيه ازدهر وأصبح أشهر ملهى في العاصمة المصرية كلها، وقد اشترت الست منيرة هذا الملهى بعد ذلك وأصبح ملكاً خالصاً لها، لكنها لم تتوقف عن الغناء من كلمات الشيخ سلامة الذي يُعد حسب الروايات بمثابة والدها.
يمكننا تقسيم حياة الست منيرة المهدية إلى شقين، حسب ما قاله الدكتور فريدريك، فهي مقسمة إلى ما قبل عشرينات القرن الماضي وما بعده، قبل العشرينات هناك مهدية الراقصة التي تغني الطقاطيق على طريقة العوالِم (الراقصات)، ومن أشهر ما غنت طقطوقة أسمر ملك روحي؛ وما بعد العشرينات، حيث اكتسب صوتها فخامة من نوع خاص، وأصبح أكثر اتزاناً ويمكن أن نقول إنه أصبح أكثر "حِرفية".
ويقال إنها من "العوالِم" القلائل اللاتي استطعن فعل هذه العملية الصعبة وهي التحول من غناء العوالم إلى مكانة المطربة، والبعض يعدونها أول من وضع مكانة قيّمة لمهنة المطربة، وأنها كذلك أول امرأة مصرية تعتلي خشبة المسرح من دون الحجاب.
أما عن المسرح فقد قدمت الست منيرة الكثير فعلاً من الأعمال المسرحية المترجمة، من أوائل المسرحيات هي مسرحية وطنية، لم أستطع معرفة اسمها على وجه الدقة، لكن الست قد أسمعتنا منها هذا المقطع في التسجيل الإذاعي:
"أدي الرجال المصريين
اللي يضحوا بروحهم علشانا
نجونا من فعل الظالمين
خاطروا بروحهم علشانا
النار متحرقش مخلص
ومصر دي نارها جنة
الإنسانية خدمتها واجبة
وحبها من حب الدين".
كما قامت كذلك بتقديم دور كليوباترا، وبتشخيص كارمن، أمام الفنان صالح عبد الحيّ، والذي تحكي الست عنه أنه ذهب لها طالباً أن يقف أمامها، فسمحت له بتجسيد دور الضابط الذي تحبه كارمن وتتلاعب به بالحبال، وفي هذه المسرحية طرفتان، أولاهما أن السيد عبد الصالح حي لم يتمكن من تمالك نفسه أمام غناء منيرة، وقال في وسط الأوبريت "اللله" فضحك جميع من كانوا في المسرح على هذا السوكسيه وعلى أفضل خروج عن النص يمكن أن يحدث على خشبة المسرح، والثانية أن أحد الضباط الكومبارس على خشبة المسرح لم يتحمل رؤية محاولات الضابط لتقييد منيرة بالحبال، فقال له: "والله لو حطيت الحبل على رأس الست منيرة لأحطه على رقبتك".
الترجمة والتسجيل
كانت المسرحيات التي تؤدى على خشبة المسرح في ذلك الوقت معظمها مترجمة وبحسب ما ورد في منصة ويكيبيديا فمن المقترح أن تكون قد تُرجمت عن الإيطالية، ومن المترجمين الذين ذكرت اسمهم الست منيرة: حسين رياض وعبد العزيز خليل والممثل المسرحي الرائع نجيب الريحاني.
سجلت السيدة منيرة لدى أشهر وأكبر شركات التسجيل، زنوفون وأديون وبيضافون ومن المرجح أنها بدأت التسجيل سنة ١٩١٤ وهي التسجيلات التي لم ترضَ عنها لأنه يغلب عليها لون العالمة.
سلطانة الطرب vs كوكب الشرق
صراع الأجيال شيء راسخ وأحد نواميس العالم التي لا تتغير، بدايةً من أساطير الميثولوجيا، مروراً بالأفلام المبنية على حبكة رغبة الكهل للحفاظ على عرشه وحروبه ضد الشباب الذي يريد أن يحظى بفرصة، انتهاءً بمكائد الفنانين من نفس الموهبة للتخلص من أي منافسات.
بل حتى في اللاوعي الجمعي للمجتمع بأكمله يأبى الآباء التنازل عن سلطتهم على الأبناء وعن مكانتهم والبرستيج الذي يمنحه لهم الأمر والنهي، وقد بنيت على هذه الفكرة الكثير من المشاهد الكوميدية الدافئة والمحزنة في ذات الوقت في المسلسلات المصرية التلفزيونية.
فإذا قمت بالبحث عن اسم منيرة المهدية عبر يوتيوب وتعثرت في لقائها التلفزيوني الوحيد على ماسبيرو زمان أو إذا قمت بالاستماع إلى أحد طقاطيقها فستجد هذه النوعية من التعليقات على كل مقطع: "مسلسل أم كلثوم ظلمها"، "كانوا مطلعينها شريرة جداً في حياة أم كلثوم" إلخ.
والحق أن الست منيرة لم تكن مؤذية ولم تتعمد التسبب في أي ضرر لأم كلثوم، وأن الحرب كانت متبادلة وكذلك المكائد، والحق كذلك أن الست أم كلثوم نفسها فعلت نفس الأمر ودخلت في صراع أجيال حين صدح صوت فنانة شابة تدعى "سعاد محمد" في لبنان، وقد منعتها من دخول مصر بالكلية، حيث دبرت لها اتهاماً بسرقة مجوهرات، وبالفعل كانت سعاد محمد تحمل معها مجوهرات لكنها كانت ملكاً لها، وللأسف لم تستطع إثبات هذا، ومُنعت من دخول مصر، ولم تستطع الدخول إلا بعد الوحدة الدولية مع سوريا.
ولا نستطيع الوصول إلى حقيقة الخلاف بين أم كلثوم والست منيرة المهدية، في ظل حديث الكثيرين- دون إثبات- أن الست منيرة هي مَن آذت أم كلثوم، والحق كما قلنا أن ذلك كان ويظل بلا دليل.
وما نعرفه أن منيرة المهدية اضطرت للاعتزال مبكراً، مع صعود نجم أم كلثوم، حتى تفرغت لتربية الحيوانات الأليفة قرابة 20 عاماً حتى رحلت عن عالمنا في مارس 1965.
حياتها الشخصية
تحب القطط، والملابس الرجالية، لا تشرب الكحول، لا الشاي، لا القهوة، ولا السجائر، وتغني ثلاث حفلات في كل بلد تزوره!
وحين زارت تركيا ذات مرة، يقول لها أحد الزملاء منبهاً بأن الناس في تركيا لا يصفقون "عمّال على بطّال" كما يحدث عندنا في مصر، لكنها تضحك وتخبره بأنهم صفقوا حين اعتلت الخشبة، وحين بدأت بالغناء!
ويكفي أنه مما ورد في رحلتها بتركيا، أن الزعيم التركي حينها، مؤسس تركيا الحديثة "مصطفى كمال أتاتورك"، كان شغوفاً بغنائها، ويحضر حفلاتها بنفسه، طالباً أن تستمر في الغناء رغم انتهاء مدة الحفل.
وتحكي منيرة المهدية في اللقاء الإذاعي عن ابنتها الوحيدة التي تقطن في الإسكندرية بعدما توفي زوجها في حادث أوتوموبيل.
وتحكي عن فراق زوجها، أنها لم تكن تستطيع الكلام لفترة، وأن صوتها كان يخرج محشرجاً خشناً لفترة طويلة بعد وفاته، تقصّ علينا في آخر لحظات التسجيل بصوت جريح.. وحزين.. لكن على هذه المرة على فراق حبيب عفيف وجميل.. لم يتركها للوعة الشوق إلا لأنه أمر الله… ولم يهنها يوماً أو يدهس كرامتها… ولم يتأخر في ليلة على العودة إلى المنزل:
"والله أقول إيه.. أقول حرق قلبي؟.. لأنه عِشرة ٣٠ سنة.. لا فارقني يوم.. ولا فارقته ساعة.. وكان زي اللي حاسس إنه هيموت.. زي ما هو.. لا عيي ولا رقد.. وكان مدير في مجلس الأمة.. وأنا متأثرة جداً وتعبانة زي ما أنتم شايفين.. مش عارفه أنساه إزاي والله.. أنساه إزاي بس.. ربنا عاوز كده.. ادعولي بالصبر".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.