إذا سألتَ أي إنسان في العالم عما يمكن أن يجعل عسكرياً ما قائداً حقيقياً يستحق الإشادة والتقدير، فسيردّ عليك مباشرة قبل أن تُنهي كلماتك قائلاً على سبيل المثال: ما يجعل عسكرياً ما قائداً حقيقياً وعظيماً هو أن يقود هذا العسكري جيش بلاده في حرب ما ويعود منها منتصراً، أو أن يتقدم هذا العسكري جنودَه في طريق مليء بالألغام.
أو قد يذهب أحدهم بعيداً، قائلاً على سبيل المثال: "أن يضحي هذا القائد بنفسه بأن يستخدم جسده مثلاً كـ"موصل كهربائي" يجمع بين سلكَي كهرباء ليُمكن رفاقه من الاتصال بباقي وحدات الجيش التي ضلوا عنها، بينما يتفحم جسده هو جراء جرعة الكهرباء الزائدة!"، وبالمناسبة كل هذه النماذج كانت موجودة بالفعل داخل الجيش المصري إبان حربي الاستنزاف وحرب أكتوبر، حسب قراءتي لكتب كثيرة متعلقة بالأمر.
لكن الغريب، أنه مع تطور الحياة والزمان يبدو أنه قد ظهرت ملامح أخرى تُميز القائد الذي يستحق -في نظر أحدهم- أن يقود جيشاً عظيما بحجم الجيش المصري، عوضاً عن قيادة دولة لها قوة إقليمية، تصل أحياناً لِأنْ تكون أكبر دولة عربية على الإطلاق، ولنقف على تلك الملامح والمعايير سنستعيد معاً كلمات اللواء سمير فرج، قائد كتيبة عبد الفتاح السيسي في الجيش المصري -وقد كان السيسي برتبة ملازم أول آنذاك- لنرى جيداً ما هي ملامح القائد التي ظهرت مبكراً على السيسي، ودفعت قائده القديم أن يتذكرها ويذكرها على الملأ أمام كل الشعب المصري في ذكرى انتصار حرب أكتوبر (تشرين الأول).
العدس بدلاً من الفول
فاجأ اللواء سمير فرج الجميع عندما استعاد هذه الذكريات، التي بدأها بالتأكيد على أنه سيحكيها للمرة الأولى والأخيرة، بالطبع نظراً لأهميتها، وربما لخطورتها أيضاً، وعلى غير المتوقع استبدل فرج نظريات الحروب والانتصارات بنظرية العدس، سارداً قصة تجعلك تتذكر مباشرة الأبطال الخارقين القادرين على إنقاذ جميع من حولهم.
تتمحور القصة كلها عن موقف بطولي للملازم أول عبد الفتاح السيسي، عندما طلب من بعض الجنود إعداد العدس لوجبة الإفطار بدلاً من الفول! معقباً على ذلك بأن العدس سيُشعر الجنود بالدفء، في ظل تراجع درجات الحرارة! ومن هُنا يربط اللواء دكتور سمير فرج، بين قرار العدس والجبنة النستون، وقرار "تخليص مصر من الإخوان"، أنه كان صادقاً في تنبّئه بمستقبل السيسي قبل 40 عاماً!
والغريب في الأمر هنا ليس القصة التي تحمل بُعداً إنسانياً ولو بسيطاً -إن صحّت- لكن الغريب هو أن يسردها قائد سابق في الجيش أمام القائد الأعلى لهذا الجيش، وفي ذكرى أعظم انتصار في تاريخ هذا الجيش، ما جعلني أشعر كمشاهد بالخجل! ليس بسبب السيسي، ولكن الخجل من أجله، فهذا الرجل الذي لم يشهد أو يخُض أي حروب على الإطلاق عندما استعان بقائده السابق لسرد مجده العسكري لم يجد في جعبته سوى "حلة العدس"، التي أمر السيسي بدافع إنساني طهيها بدلاً من الفول!
لكن الأمر لا يقتصر على ذلك، فقد ترك المقطع في رأسي عديداً من التساؤلات، فإن اتفقنا جميعنا على إنسانية عبد الفتاح السيسي في هذا المشهد، التي يبدو أنه لم يتحلَّ بها بعد هذا الموقف على الإطلاق (حيث اتُّهم بالوقوف وراء مقتل آلاف المدنيين وفقاً لإحصاءات أممية فيما يُعرف بمذبحة فض رابعة) فإنني تفكّرت طويلاً فيما فعله السيسي، هل كان موقفه إنسانياً بالفعل أم مجرد تصرف عفوي ورثه السيسي من والدته وعشرات الملايين من الأمهات المصريات؟
فإذا كان إنجاز السيسي العسكري الأبرز أثناء خدمته العسكرية هو استبدال الفول بالعدس لتدفئة أجسام الجنود فهذا يعني أن أي أم مصرية تستحق بكل اقتدار قيادة الدولة المصرية! بل الأمة العربية بأكملها، فهن لا يكتفين بطبخ العدس فقط، بل يستيقظن بعد منتصف الليل "علشان يشقروا على أولادهم"، عبر التأكد من أن أجسادهم مغطاة بالكامل بواسطة "البطانية"، وهذا يعني بالضرورة أنه لو أي أم مصرية خدمت في الجيش المصري في موقع ملازم أول أثناء قيادة اللواء سمير فرج لإحدى الكتائب بالجيش، فبكل تأكيد كانت ستنال إعجاب قائدها، لدرجة أنه كان سيحرص على إبلاغ قيادته العليا بتميزها بين كافة ضباط الكتيبة.
وفي النهاية، لا أجد الأمر غريباً أو مضحكاً، فقد اعتاد السيسي على الحديث بعفوية، وكذلك اعتاد المقربون منه الحديث عنه بعفوية أيضاً، أو ربما أن أكثر ما قد يجذبهم إليه سيكون مضحكاً بالضرورة.
فالرجل تحدّث سابقاً عن اهتمامه منذ الصغر بدراسة أوضاع مصر، لكنه ربما بالغ قليلاً في رأي البعض، حين وصف حياته في سن التاسعة بأنها انحصرت في قراءة الكتب والمقالات التي تهتم بالشأن المصري، ناهيك عن حديثه السابق عن حياته الشخصية إبان فترة خدمته كضابط بالجيش، واصفاً ثلاجته بأنها كانت فارغة من الطعام والشراب، عدا الماء، لمدة 10 سنوات، فالرجل على سجيّته؛ إذ يتحدث بعفوية مبالغ فيها، لكن المفارقة أن المضحك في الأمر هو سجيته نفسها، وكذلك تفاجأنا أنه من المضحك لنا تاريخه العسكري والشخصي أيضاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.