ما زلنا نحاول فهم النتائج الانتخابية المغربية، وذلك انطلاقاً من النظر في الأسباب والخلفيات، وقد حاولنا في المقالة السابقة أن نلقي الضوء على بعض المحددات المنهجية لفهم الانتخابات في سياقها المغربي، ولا ضير في التذكير بأن النقاش التحليلي الجاد هو الذي ينتهج عملية التفكير بأبعادها المتعددة، وبمستوياتها السياقية والشاملة.
وما فتئت صدمة نتائج الانتخابات المغربية تلقي بظلالها على التحليلات والنقاشات العامة، لا سيما ما يتعلق بسقوط حزب العدالة والتنمية منها، ولم تنقشع بعد غيوم الأسباب القريبة والمباشرة؛ سواء أكانت تلك المرتبطة بالحزب مباشرة والمتجلية في:
- الصراع داخله والانقسام بين أعضائه.
- تضخم المقاربة التكنوقراطية في التعاطي مع ملفات استراتيجية سواء في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو المجتمعي أثناء تدبيره للشأن العام.
- خفوت المرجعية المذهبية والفكرية في اختياراته.
أو تلك المرتبطة بالمحيط المحلي والإقليمي:
- دور الدولة في هندسة الخارطة الانتخابية.
- الحياد السلبي للدولة بلغة الحزب البروتوكولية.
- الاستعمال المكثف للمال في المسلسل الانتخابي.
وغير ذلك من الأسباب التي تُخلِّف غبشاً في رؤية الصورة في شموليتها وقراءة التجربة في امتداداتها الزمنية والمكانية؛ ذلك أن هذا السقوط المدوي لحزب العدالة والتنمية لا ينفصل عموماً عن أفول ظاهرة ما يسمى "الإسلام السياسي" (1)، فلم يعد خافياً على أحد أن هناك نوعاً من التراجع على اختلاف تمظهراته في مختلف البلدان العربية.
إن التراجع الذي نقصده لا ينحصر في سقوط تيارات "الإسلام السياسي"؛ سواء ذلك الذي تم بانقلاب عسكري أو دستوري، أو ذلك الذي تمّ بالانتخابات، وإنما نقصد به تراجع فكرة "الإسلام السياسي"، والفكرة هي التمثل الذهني للعالم والعصر، فهي مجردة تتعالى عن ظرفي الزمان والمكان. وبتعبير آخر، فإن فكرة "الإسلام السياسي" تمثل ما يمكن تسميته القاعدة التصورية، وهي شبكة من التصورات تتحكم في رؤيتها للقضايا الوجودية وكل ما يرتبط بشؤون العالم والاجتماع الإنساني. فكل التيارات والحركات والأحزاب التي تصدر عن هذه الخلفية تشكل لها هذه الفكرة مشتركاً ومصدراً لاختياراتها، بحيث توجه أفعالها وتتحكم في سلوكاتها.
إن فكرة "الإسلام السياسي" إلى حد بعيد واحدة، والتعبير عنها متعدد بتعدد التيارات والحركات التي تستند إلى هذه الفكرة، فالذي يهمنا بدرجة أولى في تيارات ما يسمى "الإسلام السياسي" ليس تعبيراتها الفكرية ولا مواقفها السياسية ولا تمظهراتها التنظيمية ولا سلوكاتها الاجتماعية، وإنما الخلفية الفكرية (الفكرة) التي أسست لهذه التعبيرات والتمظهرات، لأن هذه الأخيرة ليست سوى تجسيد فعلي للفكرة، وانعكاس لها على أرض الواقع، فرغم ما بين تيارات "الإسلام السياسي" من اختلافات في الشكل (التنظيم) وفي المضمون (الاختيارات الفكرية والمواقف السياسية) على طول خارطة العالم العربي والإسلامي، فإن قاعدتها التصورية (الفكرة) في عمومها مشتركة. ومن هنا جاءت الإشارة في الاعتبار الثاني في مقالتنا السابقة التي نبهت إلى وجود مغالطتين؛ الأولى: تسعى إلى نفي أي صلة لحزب العدالة والتنمية ببلده المغرب، والثانية: تعمل على نفي أي صلة للحزب بالعالم العربي الإسلامي. وفي حين يتضح، حسب ما جاء أعلاه، أن أي تيار إسلامي (العدالة والتنمية المغربي في حالتنا) يلتقي مع التيارات الإسلامية الأخرى في النسب إلى "الفكرة المؤسسة" أو "القاعدة التصورية"، ويفترق عنها في طرق التعبير عن هذه الفكرة وتجسيدها على أرض واقعها.
إن الجمع بين المستويين في قراءة تجربة تيارات "الإسلام السياسي"؛ مستوى الفكرة أو القاعدة التصورية، ومستوى تجليات هذه الفكرة فيما يخص الخيارات الفكرية والاختيارات التنظيمية، تسمح لنا بفهم هذه الانتكاسة التي طالت هذه التيارات، والخروج من حالة الصدمة التي ما زالت تغشي أبصار كثير من المحللين أمام حالات تراجع هذه التيارات في الآونة الأخيرة، على غرار سقوط حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة؛ إذ ما زال يصر البعض من هؤلاء على اعتبار ما حصل للحزب انكساراً فجائياً، معتبرين أن التراجع في قانون التدافع السياسي لا يحصل إلا بعد مرحلة زمنية ممتدة في ممارسة العمل السياسي. وهو ما لا ينطبق، بحسب هذا الرأي، على حزبٍ "فتي" كحزب العدالة والتنمية، لم يمض على مشاركته في تدبير الشأن العام أكثر من عقد من الزمن.
ومكمن الخطأ في هذا الرأي، من وجهة نظرنا، يتجلى في أنه يؤرخ للتجربة انطلاقاً من التاريخ البرلماني، كأن شأنه شأن الأحزاب الأخرى، متناسياً بذلك تاريخ وجوده الذي يسبق بكثير ممارسته للعمل السياسي الرسمي. بالإضافة لذلك، فانتماء الحزب للمرجعية الإسلامية يجعل وجوده لا ينحصر في المغرب فقط، بل يمتد إلى الخارج على طول الخارطة العربية الإسلامية، وبذلك فـ"الإسلام السياسي" كان منذ ثمانينيات القرن الماضي عنوان المرحلة. وبالتالي فهو من الناحية الرمزية يجسد ذلك الحضور، ناهيك عن اشتراكه في النسب التصوري للفكرة. فلكل هذه الاعتبارات يظل الحزب أو الحركة التي تنتسب إلى فكرة "الإسلام السياسي" تمثل في المتخيل العام (شعبياً كان أو نخبوياً) امتداداً لتلك التجربة وتجلياً لها في سياق مغاير. فمما لاشك فيه أن الموقف من تيارات "الإسلام السياسي" لا يستند إلى حصيلتها خلال عمرها الفعلي (الوجه الثاني)، وإنما استناداً إلى رصيدها الذي تجمّع خلال عمرها الرمزي (الوجه الأول).
لذلك أكدنا أكثر من مرة أن القراءة الحصيفة هي التي تجمع بين الوجهين؛ الوجه القار/الباطن والمتمثل في القاعدة التصورية، والوجه المتغير/الظاهر والمتمثل في التجليات، ومن ثم؛ يلزم دوماَ الانطلاق من الوجه الظاهر للنفاذ إلى الوجه الباطن وعدم الوقوف عند وجه واحد، وذلك ما سنقف عليه في المقالة القادمة. ويتبين من خلال هذا المنظور أن تيارات "الإسلام السياسي" تعيش أزمة مزمنة، تمتد من الشكل (التنظيم، الحزب) إلى مبررات الوجود، مروراً بإشكالية الهوية.
فهل يجوز لنا، والحالة هذه، أن نتحدث عن أفول ظاهرة "الإسلام السياسي" التي بَصَمَت بقوة تاريخنا المعاصر، سواء على المستوى العربي-الإسلامي أو على المستوى العالمي؟
وللحديث بقية
الهوامش
(1) نحرص على وضع عبارة "الإسلام السياسي" بين مزدوجتين نظرا لتحفظنا على استعمال هذا المصطلح، وهو ربما ما سنتطرق إلى بيانه في المقالات القادمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.