ليست هذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تصريحات مسيئة تُستلهم مفرداتها وخلفياتها من فرنسا القديمة، فرنسا الاستعمارية، التي تُكن العداء للإسلام والمسلمين، وتتعامل مع دول شمال إفريقيا بمنطق السيد المستعمر الذي يلقن الدروس.
فقد سبق أن أدلى إيمانويل ماكرون بتصريحات مسيئة للإسلام، بل إن صعوده لقصر الإليزيه ارتبط بمشروع تجفيف منابع التدين الإسلامي في فرنسا، باسم مواجهة التطرف، وخلق فرز حاد في المجتمع الفرنسي، واستقطاب غير المسلمين ضد المسلمين في فرنسا.
تصريحاته هذه المرة كانت موجهة للجزائر، إذ حاول ماكرون أن يتحدث من موقع الذي يلقن دروس التاريخ لـ"مستعمرته القديمة"، ويشكك في تاريخ الجزائر، ويعتبر أنها لم تكن قبل الاستعمار الفرنسي، وينتقد على الجزائريين "ازدواجية موقفهم"، وأنهم في الوقت الذي رحبوا فيه بـ"الاستعمار التركي" فإن حساسيتهم المفرطة تجاه الاستعمار الفرنسي لا تكاد تُفهم!
الواقع أن هذه التصريحات رافقتها مواقف وإجراءات عدائية تستدعي الخلفية الأصولية لفرنسا القديمة، فقد تزامنت مع قرارين اثنين، الأول وجه ضد الجزائر لمحاولة إهانتها، وذلك بإقامة حفل تتويج لـ"الحركيين"، عملاء فرنسا، من الجزائريين الذين كانوا يشتغلون لصالح فرنسا وأجهزتها الاستخباراتية زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، في الوقت الذي كانت الجزائر تطالب فيه فرنسا بتقديم اعتذار على جرائمها في الجزائر. والثاني بتعديل إجراءات الحصول على التأشيرة الفرنسية بالنسبة لدول المغرب العربي، وبالتحديد الجزائر والمغرب، بحجة أن هذه الدول لا تحترم تعهداتها بإرجاع المهاجرين غير الشرعيين لبلدانهم، في حين أن القضية هي فرنسية بامتياز، ولا دخل لدول المغرب العربي بها، لأن التلقيح في فرنسا اختياري، في حين لا تقبل دول الاستقبال وصول أي مسافر إليها بدون اختبار كورونا.
خلافات سياسية مع الجزائر أم دوافع انتخابية شخصية؟
البعض خاض كثيراً في خلفيات هذه القرارات، التي جاءت متزامنة مع الاستحقاقات الانتخابية في فرنسا، وأن ماكرون يعيد سياسته القديمة التي حاول استعمالها في الانتخابات البلدية الماضية، عندما حاول العزف على أوتار اليمين المتطرف، لاستقطاب جزء من قاعدته الانتخابية، وأنه اليوم يقوم بالفعل ذاته، بالعزف على فكرتين: التقليص من نسبة استقبال المواطنين من المغرب العربي (إجراءات التقليص من منح التأشيرة لهذه البلدان)، ومحاولة إهانة الشعب الجزائري المسلم.
والواقع أن هذا التحليل متجه، فماكرون، لا يملك أوراق اعتماد قوية لمنافسة اليمين المتطرف، في الوقت الذي تراجعت فيه أحزاب اليمين والوسط واليسار في فرنسا، لكن الرد الجزائري بإغلاق المجال الجوي على الطائرات العسكرية الفرنسية يوحي بأن هناك أبعاداً أخرى في هذه القضية، وأن خلفيات تصريحات ماكرون ضد الجزائر، ربما تتعلق بخلافات عميقة برزت مؤخراً بين البلدين، سواء في الملف الليبي، أو منطقة الساحل جنوب الصحراء، ومالي تحديداً، أو في الملف تونس.
ففرنسا، تُقدر أن الدور الجزائري في هذه المناطق، فضلاً عن التنسيق الجزائري الأمريكي في الملف الليبي، وأيضاً في ملف الساحل جنوب الصحراء، جاء ليعمق جراح فرنسا المكلومة من غدر حليفتها (واشنطن)، التي أضاعت على خزينتها ملايين الدولارات بسبب خطف صفقات تسلح مع أستراليا.
وسواء تعلق الأمر بخلفيات انتخابية، أو بتصريف مواقف للتعبير عن انزعاج من دور جزائري مفترض، فإن مثل هذه التصريحات تثير أسئلة حقيقية على صورة فرنسا، والنموذج الحداثي الذي تمثله، فلطالما تغنت دولة فرنسا بنموذجها الحداثي، الذي يقوم على مبدأ التعايش والتسامح واحترام الحق في الاختلاف، لكنها اليوم، بل وعند كل استحقاق انتخابي، تضطر إلى عزل المفردات الحداثية عن المعجم الانتخابي المستخدم، والعودة إلى الخلفية الأصولية القديمة، لمخاطبة جزء مهم من المزاج الفرنسي، والتنافس في ذلك مع اليمين المتطرف، كما ولو كان هذا المزاج الأصولي القديم هو الصانع الأساسي للخارطة الانتخابية، أو هو المحدد الحاسم فيها.
فكر أصولي استعماري قديم
بعض النخب المثقفة الفرنسية تُبرر مثل هذه المواقف والتعبيرات، بقطع الطريق على اليمين المتطرف، وأنه لا توجد طريقة أفضل من ذلك، بحكم أن المزاج الفرنسي لا يزال يحتفظ بصورة فرنسا القديمة، أو فرنسا الأصولية الاستعمارية.
لكن هذا التبرير نفسه يُثير معضلة رئيسة، كون فرنسا التي تريد أن تصدر النموذج الحداثي العقلاني إلى العالم، وبالتحديد إلى مستعمراتها القديمة في شمال إفريقيا، وإلى حديقتها الخلفية في إفريقيا، لم تنجح حتى في تغيير مزاج شرائحها المجتمعية وتطهير الإرث الاستعماري العنصري من مخيلاتها، مع أن النموذج التربوي الذي تخضع له المدارس الفرنسية ينمي ثقافة التعايش والتسامح والحق في الاختلاف، ويناهض ثقافة الكراهية والعنصرية.
الإعلام الفرنسي لا يهتم بهذه المفارقة أو هذه المعضلة، لأن الزمن بالنسبة إليه انتخابي، وفي الزمن الانتخابي لا تخضع المواقف للتحليل، بل تُقرأ فقط خلفياتها، وما الذي يريد المتحدث بها تحقيقه من مقاصد، أي أن ما يهم الإعلام، بشبكته الواسعة من المحللين، هو معرفة الشرائح التي يريد ماكرون الوصول إليها، والفئات التي يريد خطفها من اليمين المتطرف.
أما سؤال لماذا تضطر فرنسا عند كل استحقاق انتخابي إلى مخاطبة الضمير الذي لم تستطع أن تغيّره بنموذجها الحداثي وبمناهجها التربوية، ولماذا يظل هذا الضمير الأصولي الثابت هو المؤثر والحاسم في صناعة الخارطة الانتخابية؟
فهذه الأسئلة ليست مهمة، ليس لأنها تُسائل النموذج الحداثي، وتشكك في أساسياته، ولكن لأن الطرف الضحية في المعادلة لا ينتمي إلى مكونات النموذج الحداثي، أو هو بتقدير العقل الأصولي الفرنسي القديم، عدو الحداثة، ومَن كانت هذه صفته وهذا موقعه فيجوز فيه الاستعانة بنقيض الحداثة لتصفيته، حتى ولو كانت الأسلحة المستعملة تنسف النموذج الحداثي في العمق.
فرنسا وانحراف النموذج الحداثي
يتذكر الجميع تصريحات ماكرون ضد الإسلام، وكيف جرّ معه الدولة الفرنسية وأدخلها بشكل غير مسبوق في اصطفاف ضد الإسلام وضد رموزه (النبي صلى الله عليه وسلم)، في الوقت الذي كانت فرنسا دائماً تختار الحياد، وعدم التدخل للمسّ بحرية التعبير (في قضية الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم).
وقتها لم ينتبه كثير من الفرنسيين أن اصطفاف الدولة ضد الإسلام، وتحولها إلى طرف مساند لمجلة "شارلي إيبدو"، في الوقت الذي كانت تختار فيه دائماً الحياد- يجعل فرنسا تناقض نموذجها الحداثي، حتى تحركت موجة مقاطعة كبيرة لمنتجاتها في عدد من الدول العربية والإسلامية، فاضطرت فرنسا إلى تحريك وزارة خارجيتها من أجل تقديم تأويل مختلف لتصريحات ماكرون، يُجنب باريس تداعيات الموقف، بل تدخّل إيمانويل ماكرون بنفسه، وحاول تقديم تبريرات يُثبت فيها تحوير تصريحاته، وتأويلها على غير الوجه الذي قصده، مقدماً بذلك اعتذاره للمسلمين.
بل إن فرنسا وقتها قامت بممارسة غير قليل من الضغوط على دول عربية، وعلى بعض دول شمال إفريقيا بالتحديد، ومنها الجزائر، من أجل أن تُقنع مواطنيها بأن التصريحات قد أسيء استعمالها، وأن جهات متطرفة تحاول استغلالها من أجل تبرير ضربات إرهابية لفرنسا.
والمشكلة، أنه في اللحظة التي اشتد فيها الضغط على فرنسا، وتحركت حملات المقاطعة، بدأ يتحرك النقاش في فرنسا حول الجدوى من تصريحات ماكرون، بل تحركت نقاشات أخرى حول حدود الحرية في نقد الأديان، وهل من المناسب أن تحمى هذه الحرية، في الوقت الذي تهدد فيه بفرز واصطفاف حاد داخل المجتمع الفرنسي، بل وبتهديد لمصالح اقتصادية فرنسية من جراء مقاطعة المسلمين لمنتجاتها؟
الخلاصة، أن فرنسا بجزء كبير من مثقفيها وشبكة إعلامها لا يهمهم كثيراً مساءلة انسجام النموذج الحداثي، حينما يتعلق الأمر باستهداف المسلمين أو إصدار تصريحات تضر بالشعوب المسلمة، بل لا يضرهم استدعاء فرنسا إرث الأصولية الاستعمارية إن كان القصد هو التسابق على شرائح اجتماعية يمكن أن يجذبها اليمين المتطرف إليه، لكن، تحت وقع الصدمة والضغط والتهديد لمصالحها الاقتصادية، تصبح هذه الأسئلة مفتوحة للمراجعة والتداول، وتلك معضلة تحتاج لنقاش.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.