هناك كمّ هائل من النظريات والآراء لدى علماء السياسة والفلاسفة حول السياسة والعمل السياسي أو التطبيق والممارسة، مثل السياسة المثالية، والدولة المثالية، والممارسة السياسية المثالية. لكن حينما ينتقل أصحاب النظريات والفلسفات إلى جانب التطبيق والعمل السياسي؛ فنادراً ما يحكي لنا التاريخ قصصاً مشرقة.
وربما لا يوجد مثال على ذلك أفضل من الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي يعتبر الأب لفكرة أن يكون السياسي فيلسوفاً، أي "الملك الفيلسوف". عندما سنحت له الفرصة لتجسيد فكرة الدولة المثالية على أرض الواقع كما تصورها في ذهنه، هرب على عَجَل من سيراكيوز دون أن يَمضي شهر بعد.
حينما انتقل فيلسوف السياسة المثالية أفلاطون من النظرية إلى التطبيق وقع في فشل كامل. لكن هذا لا يعني بالطبع إلى ضرورة وجود مسافة دائماً بين السياسة والفلسفة أو الحكمة بمفهومها العام. لكن يجب التفريق ما بين الحكمة والسعي نحو المعرفة والفلسفة. فليس كل عالم حكيماً، كما أن الحكمة لا تتطلب قدراً كبيراً من المعلومات بقدر ما يقتضي العلم.
يبقى أحد الاستثناءات التاريخية لهذه القاعدة هو الزعيم السياسي والفيلسوف البوسني علي عزت بيغوفيتش، الذي اعترف له الجميع بلقب "الملك الحكيم" عن قناعة وتسليم، أما ما دونه من العلماء السياسيين فلم يسجلوا لتجاربهم تاريخاً ناصعاً في الواقع.
في وقتنا الحاضر حينما نقرأ لبعض العلماء والفلاسفة حول السياسة المثالية أو العلاقة فيما بين الأخلاق والسياسة، ندفع للتفكير في مدى بعدهم عن الحكمة العملية وجانب التطبيق.
حينما كنت أتأمل في ذلك سرعان ما برز أمامي ما قرأته مراراً وتكراراً لابن خلدون حول تلك الفكرة، واستذكرت ذلك السطر الذي يقول فيه "إن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها"، فقلت لنفسي: ألا ينبغي أن نتوقف عند هذا العنوان؟ لكن يجدر التنبيه إلى أن كلمة "علماء" ذات معنى واسع وكبير في فكر ابن خلدون.
بالطبع لا أريد على الإطلاق من ذلك أن يكون له تأثير في تبرير الإقصاء الكامل للعلماء لا سيما علماء الاجتماع من ميدان السياسة، بل إنني أعتقد في الحقيقة أن إحدى أهم مشاكلنا اليوم هي عدم الاستفادة من مكتسبات العلوم الاجتماعية بالقدر الذي كانت عليه في السابق لوقت طويل، وربما هذه الفكرة بحد ذاتها تتناقض مع عنوان ابن خلدون الذي سنتوقف عنده، لكن مع ذلك فإن ما طرحه أشار إلى مشكلة لا يمكن الاستهانة بها. ولفهم ذلك يجدر قراءة ما قاله ابن خلدون بدقة حول سبب قلة البصيرة أو القدرات السياسية عند العلماء.
يعلل ابن خلدون:
"والسّبب في ذلك أنّهم معتادون على النّظر الفكريّ والغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن، أمور كلّيّة عامّة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادّة ولا شخص ولا جيل ولا أمّة ولا صنف من النّاس. ويطبّقون من بعد ذلك الكلّيّ على الخارجيّات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهيّ.
فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن ولا تصير إلى المطابقة إلّا بعد الفراغ من البحث والنّظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنّما يتفرّع ما في الخارج عمّا في الذّهن من ذلك كالأحكام الشّرعيّة فإنّها فروع عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقليّة الّتي تطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوّدون في سائر أنظارهم الأمور الذّهنيّة والأنظار الفكريّة لا يعرفون سواها.
والسّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنّها خفيّة. ولعلّ أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلّيّ الّذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم.
والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيّس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إيّاه يقتصر لكلّ مادّة على حكمها وفي كلّ صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختصّ به ولا يعدّي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره الموادّ المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسّابح لا يفارق البرّ عند الموج. قال الشّاعر: فلا توغلنّ إذا ما سبحت… فإنّ السّلامة في السّاحل.
فيكون مأموناً من النّظر في سياسته مستقيم النّظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم عليم. ومن هنا يتبيّن أنّ صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر في المعقولات الثّواني". (انتهى)
تتداخل هذه الكلمات لابن خلدون في الواقع مع النتائج الاجتماعية المعاصرة حول مفهوم الكاريزما. ولقد ناقشتُ هذه الأمور باستفاضة ضمن كتابي "أزمان الكاريزما".
حينما يبحث الفلاسفة وعلماء السياسة عن أداء فلسفي أو فكري في شخصية سياسية كاريزماتية ثم لا يعثرون على ذلك يختلط الحابل بالنابل دون التفريق ما بين العنصرين. ألا يعتبر الأمر ذا مغزى إذن حينما لا يحظى علماء السياسة او الفلسفة على حد سواء في الفرصة أو القدرة على تحقيق نجاح سياسي؟
هذه المفارقة تقود بدورها للمزيد من الفلسفة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.