تصطدم مواقف الأحزاب التونسية من القرارات الأخيرة للرئيس قيس سعيد، بما يُشاع أنه شعبيته المتزايدة التي جعلت منه قائد الضرورة، المنقذ لما يمكن إنقاذه في البلاد.
ربما يرى سعيّد في نفسه صفة ذلك القائد الذي جاء لتوحيد الصفوف وفق نظرية ميشال عفلق، أي الذي "يظهر في لحظة عسيرة باصطفاء قدري كالاصطفاء الإلهي للأنبياء، ليقود شعبه نحو الانتصارات الكبرى". ويرى أنّه بنظافة يده قادر على الخروج من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر آليات "لا دستورية" يُضيف عليها الزخم الشعبي مسحة شرعية.
قيس سعيّد الذي لم يكتفِ بتعليق عمل البرلمان وسحب الحصانة عن نوابه منذ يوم 25 يوليو/تموز الماضي، ظهر يوم 20 سبتمبر/أيلول الماضي، في خطاب مباشر أمام مناصريه في محافظة سيدي بوزيد، وأكد مواصلته للتدابير الاستثنائية وتوجهه لإصدار أحكام انتقالية، وتعيين رئيس حكومة، إضافة إلى عمله على مشروع انتخابي جديد.
طريقة إلقاء الخطاب كانت مدروسة، وتوجهه للمحافظة التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية، جاء رداً على المسيرة التي دعا إليها معارضوه في شارع الحبيب بورقيبة وفرنسا، في إشارة إلى أنّه يستمد تفويضه من الشعب، في أهم معقل للثورة. واعتمد سعيّد في ذلك على نموذج "أغورا" في التواصل مع جمع من أنصاره بشكل مباشر، حيث يصبح دور الصحفي كوسيط مهمّشاً إلى حد كبير، ويكون السياسي صاحب الرسالة المتحكم فيما يُبث بشكل واضح.
ومع إصداره الأمر الرئاسي 117 ضمن التدابير الاستثنائية لتنظيم عمل المؤسسات، وفق معايير ضبطها بنفسه، وكان فيها صاحب الرأي والسلطات، خاصة أنّه لم يترك من أبواب الدستور المعلقة سوى التوطئة والباب الأول والثاني، ومع تصاعد القلق الداخلي والخارجي اعتبر البعض أنّ سعيّد يُعاني من "نهم السلطة".
وتشكّلت جبهات لمعارضة قراراته، مع تخوفات من العودة بتونس إلى مربع الاستبداد والرأي الأحادي، الذي يمثل الرئيس التونسي أحد أوجهه، وهو ما دفع المنظمات المحلية، وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى التعبير عن استيائه من تفرُّد سعيّد بالحكم، وتفاجئه من الاتجاه الذي يحاول تطبيقه. كما دعت منظمات من المجتمع المدني التونسي قيس سعيد، على غرار "أنا يقظ" إلى "تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال"، وفق ما ينص عليه الفصل 80 من الدستور، كما دعت منظمة العفو الدولية في أكثر من بيان لها الرئيس التونسي إلى احترام الحقوق والحريات في تونس، وإنهاء حظر السفر التعسفي.
وتشكّلت التنسيقية التي جمعت قوى تُسمّي نفسها بالديمقراطية، من أربعة أحزاب، وهي حزب التيار الديمقراطي، وحزب التكتل من أجل العمل والحريات، والحزب الجمهوري، وحزب آفاق تونس، مطالبةً الرئيس بالرجوع إلى الشرعية وتصحيح المسار السياسي، بعد مساندة أغلبها لقرارات 25 يوليو/تموز.
وتشكّلت جبهة أخرى تتكون أيضاً من أربعة أحزاب، وهي كل من الاتحاد الشعبي الجمهوري، وحراك تونس الإرادة، وحزب الإرادة الشعبية، وحركة وفاء، لمواجهة انقلاب قيس سعيد بالوسائل السلمية والضمانات الدستورية.
في المقابل تُعارض حركة النهضة قرارات سعيد مع حلفائها السابقين في الحكم دون تحالفات معلنة، والتي تعيش بدورها أزمة داخلية أدت إلى استقالات تجاوزت الـ100 لقياديين وأعضاء في الحركة، بسبب الإخفاق في الإصلاح وسياسة القيادة الخاطئة، وفق بيان المستقيلين.
عبير موسى قلقة
وأصدرت الحركة يوم 29 بياناً دعت فيه نوابها إلى العودة إلى العمل البرلماني يوم 1 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وهي خطوة دعا إليها نواب آخرون لحماية المؤسسات الديمقراطية من الانقلاب على الدستور.
أما عبير موسى، التي خطف منها سعيد الأضواء، فتحاول في كل مرة الظهور لكسب نقاط على حسابه، بالتودد أحياناً وبالتعبير عن قلقها من بعض قراراته أحياناً أخرى.
كما تحرّك الشارع التونسي المُعارض لسعيد، وكان يوم 26 سبتمبر/أيلول رسالة واضحة محلياً وخارجياً، من آلاف الرافضين للقرارات، الذين خرجوا إلى شارع الحبيب بورقيبة، رافعين دعوات لعودة العمل بالدستور، والحرية والكرامة، فيما نادى بعضهم بعزل الرئيس.
رسالة تلاها تصريح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، في رده على سؤال حول موقف بلاده مما يحدث في تونس، بدعوته الرئيس "لصياغة خطة ذات جدول زمني واضح، لعملية إصلاح شاملة للجميع، تضمّ المجتمع المدني والأصوات السياسية المتنوعة".
وبيّن "أنّ العمل الأساسي المتمثل في دعم تقدم تونس على مسارها الديمقراطي هو أهم من التباحث في تسميةٍ لهذه الأحداث، وهذا ما نركز عليه".
كما صدر مقال للسيناتور كريس مورفي في موقع ctmirror، يقول فيه إن سعيد فعل عكس ما وعد به الوفد الأمريكي، الذي التقاه بإعلان الحكم بمرسوم وتعليق أجزاء من الدستور.
ومع توالي الضغوط الخارجية بالتزامن مع زيارة قائد القوات الأمريكية بإفريقيا "أفريكوم"، ستيفان تونساند، إلى دول شمال إفريقيا، والتقى بعبد الحميد الدبيبة في ليبيا، وفي الجزائر التقى عبد المجيد تبون، وفي تونس التقى قيادات عسكرية فقط، وبعد ذلك بيوم سُحبت المدرعات من أمام مبنى مجلس النواب التونسي، مع الإبقاء على الوجود الأمني.
تورية سوءة الانقلاب
وبعد أيام من إصداره المرسوم، أعلن سعيد عن تعيين السيدة نجلاء بودن رئيسة للحكومة التونسية، كأول امرأة تتولى المنصب في تاريخ البلاد. دعاها سعيد لتشكيل حكومتها التي سيشرف على تعيينها أيضاً.
ربما حاول سعيّد أن يواري سوأة "الانقلاب" بوجه نسوي لحكومته، يستميل من خلاله الحداثيين فيكونوا في صفه، ويُبعد أي شبهة تحاول عبير موسى إلصاقها به، في علاقته بمكتسبات المرأة التونسية التي نصت عليها مجلة الأحوال الشخصية، ويلمع صورته خارجياً أمام المانحين الدوليين، خاصة أنّ بودن، وهي مختصة في علوم الجيولوجيا، تشغل حالياً خطّة مكلفة بتنفيذ برامج البنك الدولي بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
رغم رمزية التعيين، فإنّ بودن ستشغل منصب وزير أول وليس رئيس حكومة بالمعنى السياسي، إذ إنّ كل الصلاحيات بيد الرئيس، هو من يعينها والوزراء وكتاب الدولة، وهي مكلفة بتطبيق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها الرئيس، وفق المرسوم 117.
ولئِن بدت ردود الفعل الدولية إيجابية بعد تعيينها، لكنها تصب في أغلبها في الدفع أيضاً نحو ضرورة العودة إلى الديمقراطية البرلمانية، على غرار موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مكالمة هاتفية جرت بينها وبين سعيّد، مع تمسك جلي للأخير بقراراته.
وأيضاً يظهر ذلك في تغريدة للسيناتور مورفي، الذي قال إنّ قرار الرئيس سعيد بتعيين رئيس للوزراء خطوة أولى مهمة لإعادة تونس إلى مسار الديمقراطية، لكن، وفق تقديره يجب أن يشرف على هذه الحكومة الجديدة نواب منتخبون".
يبدو أنّ قيس سعيّد لن يتنازل عن مشروعه الذي أطلق عليه من يقودون حملته التفسيرية "البناء الديمقراطي القاعدي"، ويقوم على تغيير النظام الانتخابي والنظام السياسي اللذين سيكونان لبنة مشروع سعيد.
وعبر سعيّد عن ذلك منذ عام 2019 خلال حوار صحفي مع "الشارع المغاربي"، حيث قال إنّ مشروعه يتمثل في "انتخابات محلية تنتخب منها مجالس، وبالاقتراع يتم تشكيل مجلس جهوي، يختار نواب البرلمان من المجالس المحلية"، وأضاف أنّه "لن تكون هناك انتخابات مباشرة لبرلمان باردو"، أي أنّها ديمقراطية مجالسية من المحلي إلى المركزي، يُشبّهها البعض بالديمقراطية المجالسية اللوكسمبورغية، (نسبة لروزا لكسمبورغ)، وهي نظرية ثورية اشتراكية خاصة بالماركسية.
يسعى سعيّد في الأثناء إلى تهميش الأحزاب السياسية في البلاد، التي اعتبر أنّها أفلست وانتهت، ويقدم مقاربة تنسف كل الأجسام الوسيطة، من أحزاب ومنظمات ليحقق مشروعه، الذي تحدث عنه منذ سنوات، ويبدو أنّ السياق كان ملائماً له ليستغلّ الغضب الشعبي ويبدأ في إنجازه.
ولا يبدو الأفق السياسي جليّاً مع تمسكه بمشروعه ورفض أغلب الأحزاب له، ودعوة أخرى للعودة إلى العمل البرلماني، ولم يبقَ من السيناريوهات المقبلة إلا خياران، قبول معارضيه بإجراءاته وتفرّده بالسلطة وإسقاط مشروعه على الوضع التونسي أو المواجهة في الشارع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.