تحولت مواقع التواصل الاجتماعي من مجرد وسيلة للتواصل إلى قنبلة موقوتة، تهدد استقرار الإنسان نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، فالأمر لم يعد مقتصراً على التواصل مع الآخرين، أو متابعة ما يحدث حول العالم، أو الاتصال بالعالم الخارجي، فقد تحوّل إلى وسيلة لكسب العيش غير المشروع، وطريقٍ مفتوحٍ لتسهيل عمليات النصب والاحتيال والادعاء وهتك ستر البيوت وحرمتها، وأخيراً جنون الشهرة المطلقة.
فمثلاً عند تصفّحك لأحد هذه المواقع ستظهر أمامك ملايين الإعلانات عن طرق فعالة لربح المال في غمضة عين، وكل ما عليك فعله هو ضغطة زر على رابطٍ معين ينتقل بك إلى موقع آخر تقوم بتحميله أو مشاهدة ما يحتويه من فيديوهات، لتحصل على مكافأة مالية فورية بعد ذلك، ولكن هل توقفت لحظة لتفكر وما المقابل؟ منذ متى نحصل على الأموال بمجرد ضغطة زر؟ وهل لأنك نفذت المطلوب أصبحت فعلاً تلك الأموال من حقك؟ أم أنك تتعرض لخداع ستدفع ثمنه لاحقاً؟ توفر المال وتهدر مبادئك بالسماح للمزيد مما شاهدت من محتوى تلك المواقع بالانتشار، وإتلاف فرص الشباب في البحث عن فرص حقيقية لكسب قوت أيامهم، وكذلك السماح لمثل هذه المؤسسات باختراق خصوصية جهازك، ومن بعده حياتك وأفكارك.
أما ما تشاهده من محتوى فكارثة أخرى تتعدد صورها.
تحت سن المراهقة
لن يمر عليك يوم دون أن يقع نظرك على فيديو لصبي أو فتاة يتراقصان على أنغام موسيقى أحد هذه التطبيقات، مستعرضاً جسده ومهاراته في إغراء متابعيه لزيادة عدد مشاهديه ورفع نسبة أرباحه، أو قد تجدهم يقومون بالطعن في شرف بعضهم البعض، وقد يصبح الظهور فقط من أجل استفزاز المتابعين، ليقوموا بمهاجمتهم، وحصد أكبر عدد ممكن من الشتائم والانتقادات، دون الاهتمام في جميع الأحوال بالحد الأدنى من القيم والأخلاق والكرامة الإنسانية، في مقابل اللايك والشير والسبسكرايب.
تحت بند التسويق
خلال تصفّحك ستكتشف حاجتك لأشياء تفوق دخلك المادي ومستواك المعيشي، ولكنها ضرورية جداً لاستمرار حياتك، سيفوتك نصف عمرك إن لم تقتنها، فكيف ستقضي أيامك دون صبارة راقصة؟ أو لعبة كروت مدون عليها جميع إفيهات الأفلام؟ أو كيف تجرؤ على أن تشرب قهوتك في الصباح دون استخدام مضرب النسكافيه الآلي لتُنافس ستاربكس وصانعي القهوة المحترفين؟ أو كيف تسمح لنفسك بقضاء إجازاتك دون زيارة أي من المنتجعات السياحية داخل بلدك أو خارجه، ألا تعرف كيف تعيش الحياة؟ إن لم تكن لديك فكرة لا تقلق، سيُملون عليك كل ما ينبغي فعله، فقط اترك في صندوق الرسائل رقم بطاقتك الائتمانية واترك الأمر لهم.
ربات المنازل
آخر تحديث أضيف لهذا العالم الافتراضي، بخلاف أنه ينقل ما يحدث داخل البيوت على أرض الواقع، أنك بمجرد ضغطك على زر المشاهدة يُفتح لك باب المنزل وتطلع على جميع أسراره، لأنك لست مجرد متابع، بل أحد أفراد العائلة، عليك الآن أن تتابع ما تفعله فلانة خلال يومها من لحظة استيقاظها إلى وقت النوم، تشارك في الخلافات العائلية، وتشاهد واجباتهم اليومية، وما يدور بينهم من أحداث لا ينبغى لها أن تخص أحداً غيرهم، ولأجل تسليتك قد تشاهد مقلب فلانة في زوجها، وردة فعله التي سبق الاتفاق عليها، أو خلافها مع حماتها، أو الأسباب التي أدّت لانفصال زوجها عنها، وفي النهاية لا تنسَ أن حياتهم الشخصية خط أحمر، وأنت مجرد متابع، رأيك لا يشكل فارقاً لهم!
الفاشون بلوجرز
قوالب في فاترينا للعرض تختار منها ما تشاء لمشاهدته، ولكن احذر، لن يقتصر الأمر على المشاهدة فحسب، فأنت من الآن عليك أن تتشكل بنفس القالب الذي يعيشون داخله، استخدم هذا المنتج السحرى لتحصل على بشرة ناعمة كالأطفال، وذاك لأجل جسد ممشوق القوام، والجأ لهذا الطبيب للقيام بعملية بسيطة تشفط فيها ما يرونه زائداً على معاييرهم، وتضيف ما يقنعونك بحاجتك إليه. والآن مبارك، قد تحوَّلت لنسخة مكررة منهم، وإن لم تمتلك المال لفعل هذا سيطاردك شعورك بالنقص، رغم دعواتهم لتقبُّل ذاتك، ولكن بعد أن تخضع لعمليات الاستنساخ المطلوبة.
أما ذاتك التي خُلقت بها فيجب إيقاف مراحل تطورها من طفولة ومراهقة وشباب وشيخوخة، عليك ألا تشيخ أبداً، أما عن مظهرك فقد وضعوا لك قواعد عليك اتباعها أو تتحول إلى نكتة يتداولها الجميع، أحمق اخترق قواعد الموضة والأزياء، وقرر اعتماد أسلوبه الخاص دون اللجوء لخبراء الأزياء والتجميل ودور الموضة حول العالم، وها أنت جاهز للعرض، ينقصك فقط هاتف بكاميرا عالية الجودة تدفع فيه أضعاف ما تمتلك من أموال لتحصل على صورة مناسبة تُنافس بها ما يعرضونه عليك يومياً، وسيارة فاخرة تشارك منها فيديوهات لعرض انسجامك مع قائمة أغانيك الرائجة، وبعض السفريات لتنقل أجواءها المرحة التي لن تسمح لنفسك بالاستمتاع بها، حتى لا تفوتك لقطة تصعد بك على قائمة التريند.
ولكي لا ننسى دورنا في كل هذا، ينبغي لنا الاعتراف بأننا السبب الرئيسي في مثل هذه الظواهر، نحن من يقوم بمجاراة هذا المسلسل السخيف كل يوم، ومن يساعد تلك النماذج في الانتشار والظهور مثل النار في الهشيم، ثم نعود لشكوانا من انحلال قيم المجتمع وتفكك الأسر وانتشار البلطجة والنصب وحالات الانتحار بين الشباب، بعد إدراكهم لما ينقصهم في حيواتهم على أرض الواقع، فهل سألنا أنفسنا كيف ستسير الأمور إنْ توقفنا عن الضغط على هذه الأزرار والعودة لحياتنا الواقعية، دون محاولة اللحاق بالتريند، أو الرغبة في الشهرة وكسب الأموال دون عناء؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.