في خضمّ الجدل الدائر، على الأقل منذ انطلاق الحراك اللبناني في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2019، حول موضوع تحديد أي نظام حكم هو الأمثل ليكون بديلاً للنظام القائم حالياً في لبنان، يُطالعنا بين الفينة والأخرى مثقفون، وإعلاميون، وناشطون في منظمات المجتمع المدني، وغيرهم، كي يتحفونا بنظرياتهم حول التكنوقراطية، محاولين تصويرها على أنها النظام المثالي الذي يجب تطبيقه في بلاد الأرز.
والجدير بالذكر أنّ كثيرين من هؤلاء المنظّرين إما يعملون في مؤسسات إعلامية في دول الخليج العربي، خصوصاً في دولة الإمارات، أو حتى في المملكة العربية السعودية، أو يكتبون في صحف ومواقع ممولة من هاتين الدولتين، وهم لا يكلّون ولا يملّون من محاولة تسويقهم للأنظمة التي يعملون لديها، والتي يطغى على حكوماتها الطابع التكنوقراطي، كنموذج "حضاري" يجب على لبنان أن يتمثله، وأن يحذو حذوه، حتى أصبحت التكنوقراطية من التابوهات الفكرية الممنوع انتقادها، أو التشكيك فيها بلبنان.
إذا لم يكن نظام ولاية الفقيه، الذي يحاول حزب اللّه فرضه في لبنان، نموذجاً صالحاً للاقتداء به بأي شكل من الأشكال، فهذا لا يعني أنّ النموذج التكنوقراطي، لا سيما ذاك المطلوب استيراده من بعض دول الخليج العربي -غريمة إيران وحزبها في لبنان- يصلح لأن يكون البديل عن نظام الطائف.
تعرّف التكنوقراطية بأنها نظام حكم يتم فيه اختيار أصحاب القرار (أي الوزراء) على أساس اختصاصهم (علماً وخبرةً) في مجال معيّن ومحدّد دون غيره، فيستمدون "شرعيتهم" من علمهم وخبرتهم في مجال اختصاصهم حصراً، وهي بذلك تتعارض مع الديمقراطية التي تقوم على مبدأ مفاده أنّ أصحاب القرار يستمدون شرعيتهم من الأكثرية الشعبية، وذلك عبر الانتخابات.
يتفق فقهاء القانون الإداري، لا سيما في لبنان وفرنسا، على اعتبار أنّ الوزير في النظام الديمقراطي هو أولاً منصب سياسي، قبل أن يكون مجرد منصب إداري، وعليه، فإذا كان من المستحب تسلّم التكنوقراط لشؤون إدارة الدولة كل حسب اختصاصه (كمديري مصالح، ومديريات، ومديرين عامين)، فإنه لا يمكن إسقاط هذا المبدأ على الوزارة، لأنّ الوزير في النظام الديمقراطي ليس فقط الرأس الإداري لوزارته، بل هو عضو في حكومة تناط بها دستورياً السلطة الإجرائية، المنبثقة من انتخابات تشريعية.
في كتابه القيّم "نظام التفاهة"، المترجم إلى عدة لغات، يبيّن الفيلسوف الكندي، آلان دونو، بكثير من التفصيل والدقة العلمية، مساوئ التكنوقراطية، لا سيما كيف أصبح -من يسميهم هو- "التافهون" يسيطرون بواسطة التكنوقراطية على أهم أنظمة ومؤسسات الحكم في العالم، لا سيما في أمريكا وأوروبا، خصوصاً في العقد الأخير.
يشرح دونو في كتابه المذكور آنفاً فصلاً بعد الآخر كيف وسّع التافهون سطوتهم تدريجياً على جميع الميادين: الأكاديمية (الجامعات)، والاقتصادية، والتجارية، والمالية، والثقافية، محوّلين العلم إلى مجرد سلعة، مستبدلين مفهوم المثقف، وسعة أفقه، وتفكيره الحر، بمفهوم "الخبير" المتخصّص في مجال محدّد، والذي يبيع خبرته لمن يدفع أكثر في أسواق العمل و"الحوكمة".
ولعلّ الترجمة الأدق لعنوان كتاب دونو هذا، Médiocratie هي: نظام الرداءة ومحدودية التفكير، وأهم ما فيه هو تبيان الفيلسوف الكندي كيف تشكل التكنوقراطية رافعة للرديئين (التافهين) في الوصول إلى أعلى المراكز السياسية، والسيطرة على الحكم ومؤسساته، وكيف يحولون أنظمة الحكم السياسية التي يسيطرون عليها إلى أنظمة رديئة، تافهة، ديمقراطية بالظاهر، ولكنها مجافية لكثير من المبادئ الديمقراطية في الحقيقة.
والجدير بالذكر أنّ دونو يفصّل هذه النقطة بالتحديد، أي تفكيك déconstruction التكنوقراطية ونقدها، وإبراز مساوئها كرافعة للتافهين ولنظام حكمهم السياسي، في كتابين آخرين شديدي الأهمية، هما "سياسة أقصى الوسط" Politique de l'extrême centre، وكتاب "حوكمة" Gouvernance.
وتعرف أوروبا على الأقل منذ بداية القرن نقمة شعبية ضد تكنوقراطية المفوضية الأوروبية، واتهام هذه التكنوقراطية المتربعة على رأس الاتحاد الأوروبي بأنها فعلياً مقبرة للسياسة وللديمقراطية، وقد شكّل سخط الشعوب الأوروبية على التكنوقراطية سبباً أساسياً في تصويت الأكثرية الشعبية في كل من فرنسا وهولندا ضد مشروع الدستور الأوروبي في استفتاء 2005، وقد بانت هذه النقمة على التكنوقراطية الأوروبية بشكل واضح أيضاً في نتيجة استفتاء البريكزيت سنة 2016، الذي أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
أما الأخطر من المثال الأوروبي فهو عندما يتم استعمال التكنوقراطية وفاعليتها الاقتصادية، من قبل أنظمة هي أصلاً قمعية، كوسيلة لمحاربة الديمقراطية، أي كي تقول هذه الأنظمة لشعوبها إننا أمَّنّا لكم بواسطة التكنوقراطية الماء والكهرباء والسكن والعمل، وبعضاً من البحبوحة، والأمن، ووسائل اللهو، والتكنولوجيا، فما حاجتكم بعد كل ذلك للديمقراطية، وحقوق الإنسان، وللتعبير عن رأيكم بحرية؟ عيشوا في هذه النعمة والزموا الصمت!
وبالعودة إلى لبنان، فمن علامات زمن الانحطاط في هذا البلد أنّه بعدما كان ينظر اللبناني إلى شكل النظام الديمقراطي ليحلم، محاولاً الاستيحاء منه لتطوير واقع نظامه اللبناني القبلي المُزري، أصبح المطلوب من اللبناني اليوم النظر إلى شكل الأنظمة التكنوقراطية في العالم، محدودة التفكير والثقافة، والتي هي مصانع للتافهين وسائر الرديئين، كي يتخذ من هذا الشكل المحدّد من أنظمة الحكم مثلاً أعلى يجب أن يعجب به، ويفتح فمه اندهاشاً أمامه، ويحلم به ليل نهار.
فبعد أن كان يحلم اللبناني بأن يكون بلده سويسرا الشرق، ليس من منطلق عنصري أو فوقي إطلاقاً، وليس بمعنى مرتع للعقلية المركنتيلية النفعية المادية المحدودة، بل بهدف أن يصبح منارة قيم ومبادئ إنسانية وثقافية أولاً، وإذ قد أصبح المطلوب من اللبناني اليوم أن يكون جل حلمه الاقتداء بدول وأنظمة -تحديداً تلك المتصارعة فيما بينها في الإقليم- لها سجل حافل في عدم احترام الديمقراطية، أو حقوق الانسان، أو الحق الإنساني، أنظمة تارة تقمع شعوبها بالعنف والترهيب، وتارة بالاعتقال والإعدامات، وتارة تحاول شراء أمن أنظمتها الداخلي ببعض المساعدات الاجتماعية، واسترضاء الغرب ببعض الجوائز الثقافية السخية، وتارة تخرق القانون الدولي الإنساني في الحروب التي تسعّرها وتشارك فيها على امتداد الإقليم.
ومن علامات التقهقر الثقافي في لبنان أنّ الأبواق الإعلامية، على اختلاف انتماءاتها السياسية، (وهي غالباً أوجه متعددة لعملة واحدة)، تتبارى فيما بينها لتقديم الدولة الأجنبية التي تأتمر بها، وتعمل لدى نظامها -أو لدى من يعمل لديه- بغض النظر عن الاختلاف في مدى وطبيعة تدخل كل من هذه الدول في لبنان، أو هيمنتها عليه، كمثال يجب على لبنان الاقتداء به وحذو حذوه، في حين أنّ هذه الأنظمة بمجملها معروفة بضربها عرض الحائط كل ما له علاقة بالديمقراطية، وحقوق الانسان، وبالحق الإنساني.
أشد ما يؤلم في زمن الانحطاط اللبناني المرير هذا أنّه حتى الحلم، حتى الحلم، الذي هو بطبيعته أكثر ما هو حر، وطليق، ومتفلّت من سجن الواقع الأرضي، وأعلى ما يحلّق به وجدان الإنسان، حتى الحلم أصبح وضيعاً، زاحفاً، دون أجنحة، أي تماماً على صورة "ثقافة" هذه الأبواق الإعلامية حديثة النعمة، وذهنيتها الوصولية المركنتيلية المحدودة، التي أصبح المطلوب تعميمها على اللبنانيين، ربما كي نصبح جميعاً نتكلم بلغة الضفادع والحفاضات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.